«في أسوأ الكوابيس لم نتوقع أن يصل حال الصحافة إلى ما وصلت إليه الآن».
هذا صوت نسمعه من البعض الباقي من الجماعة الصحفية الممسكون على جمرة الاحترام وبقدر من الموضوعية، في ظل أمواج عاتية تطيح بالمهنة وتضربها في مقتل وسط مهن الرأي، وصار العديد من غير المؤهلين يتصدرون المشهد.
ولكن، ما لا كنا نعلمه في بداية مشوارنا الصحفي أن ثمة صراع دائر، يخوضه هؤلاء الممسكون للحفاظ على شرف المهنة، بين مطرقة المهنية المرجوة، وسندان تبعية مؤسساتهم الصحفية لمصادر تمويلها وسياساتها، والمؤسسة الناجية من ذلك -الرَحَى- هي التي تجيد الحفاظ على توازن قدر الإمكان بين التبعية والمهنية.
علمنا بعد تجارب مريرة أنه لا إعلام غير موجه على الإطلاق، وبرغم أننا قرأنا عن ذلك أثناء دراستنا للإعلام في الجامعة، ولكن لم نكن نعلم شيء عن قسوة التطبيق.
في مهنتنا صاحبة الوضع البائس، يتخرج البعض -وانا منهم- في كليته المتخصصة، معتقدا أنه يحمل سيف يزعم أنه الحق، أو جزء من سيف العدالة، حتى ينطلق ليحارب به الفساد، أو يكون جزءًا حتى من مواجهته، فيصطدم -إذا عمل بالصحافة- بوابل من اللكمات المستقيمة المتتالية التي كانت تميز طريقة لعب محمد على كلاي، تارة من رئيس قسم متعال أو جاهل أو مؤدلج، أو مدير تحرير متنطع جلس على كرسيه بالواسطة أو الخنوع أو الإثنين معا، أو رئيس تحرير كأنه ملك مفتاح جنة تعيين الواحد منا ليكون- المفتاح- صك دخول جنة نقابة الصحفيين.
ثم يجد بعض الصحفيين نفسه في صراع دائم بين ما يرضي دينه وضميره المهني والأخلاقي وبين ما يرضى رئيس تحريره وسياسة المؤسسة، حتى لا يُطرد من الجنة، ولا ينطبق هذا الكلام بالطبع على من يتوافق ويتماهى مع أي سياسة تحريرية من أجل «لقمة العيش»
ويصبح حلم هذا الصحفي البائس- برغم أنه حقه- هو التعيين بالمؤسسة الصحفية ليكون عضوا بنقابة الصحفيين، بدلا من ان يكون حلمه هو تحقيق سبق أو انفراد أو إثارة قضية وطنية لصالح بلده، ولما يتحقق حلمه يصبح كخيل الحكومة، تتخلص منه المؤسسة وخاصة غير القومية، إما بالإجبار على المعاش المبكر، أو بالفصل التعسفي، او بقطع الراتب اعتمادا على بدل التكنولوجيا بنقابة الصحفيين على اعتبار ان الصحيفة هي التي تمنحه هذا الامتياز.
جانب مرير من حياة الصحفي الذي لا يعلمه العامة عنا وعن مهنتنا، التي كانت لها قدسية واحترام في زمن ولى نتمنى أن يعود، زمن كانت تجيد فيه بعض المؤسسات الصحفية الحفاظ على قدر كبير من المهنية وسط التململ على فوهة صراع يدور بينها وبين التبعية لمصادر التمويل، حتى سقطت في البركان الذي لا يهدأ يطرد كل من هو يتطلع الى صحافة حرة، وأجور عادلة، تحمى الصحفي من غياهب مد يده لمعلن، أو لمن يدفع له مقابل سكوته أو شراءه ليكتب لمن يدفع.
وضع بائس لن ينصلح ولن تجدى معه أي حلول إلا بالتعرض لمشاكل المهنة بشكل عملي، وجدى، ومخلص، وطرح الحلول السريعة لإنقاذ المهنة والعديد من الصحفيين الذين يعتمدون في معيشتهم فعليا على بدل التكنولوجيا من نقابة الصحفيين، وينتظرون موافقة مجلس النقابة على إدراج أسمائهم بكشوفات بدل البطالة بعدما سُرحوا قسرا من صحفهم، لما تعدى غالبيتهم الخمسين من عمرهم، وبالطبع لا علاقة للسطور السابقة بمن علم طريقه من المحسوبين على المهنة ليكون في مأمن -من كل ما يتعرض له الصحفيون الذين يحاولون التمسك قدر الإمكان باحترام أنفسهم حاليا- بعدما انصهر في أي بوتقة إعلامية تنتج رفاهية عيشه على حساب أي شيء، أي شيء.
