في كل عام، تُبعث الذكرى. وفي كل عام، يتكرر الجدل: هل كانت 30 يونيو ثورة تصحيحية، أم انقلابًا عسكريًا مغطّى بجماهير غاضبة؟
الاحتفاء الرسمي بهذا اليوم يتواصل بلا انقطاع. الإعلام يحتشد، التصريحات تتكرر، والميادين تُزيَّن بصور وطنية مبتذلة. لكن وسط كل هذا الصخب، لا يُسأل أحد: من هم شهداء 30 يونيو؟
لا أحد يجيب، لأن الحقيقة الصادمة هي: لم يكن هناك شهداء يوم 30 يونيو 2013. نعم، لم يسقط أحد. لم تُسجّل مواجهات دموية بين متظاهرين وقوات الأمن. لم يُعلن عن قتلى، ولا حتى جرحى بالمعنى الواسع.
لكن، ويا للسخرية السوداء، ما أعقب 30 يونيو كان مجزرة شاملة… وكان الثمن دماءً حقيقية، سقط فيها المئات، ثم الآلاف، على مذبح «تصحيح المسار».
الذين سقطوا بعد 30 يونيو هم الشهداء الحقيقيون لهذا الحدث. هم أولئك الذين لم يشاركوا في الحراك، أو شاركوا برؤية مختلفة، أو اعتصموا رفضًا لما رأوه انقلابًا، أو مجرد معارضة سلمية… فكان نصيبهم القتل أو السجن أو النفي أو القبر.
رابعة والنهضة: مذبحة لا تمحى
في 14 أغسطس 2013، وبعد أسابيع من الاعتصام السلمي في ميدان رابعة العدوية، اقتحمت قوات الأمن الميدان بالدبابات والرصاص والقناصة، وأحرقت الخيام فوق رؤوس المعتصمين.
قُتل أكثر من ألف إنسان في ساعات معدودة، بينهم أطفال ونساء ومسعفون. كانت المذبحة بشهادة منظمات دولية (هيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية) من بين أسوأ المذابح الجماعية في القرن الحادي والعشرين.
لم تكن رابعة وحدها، بل رافقتها مذبحة ميدان النهضة، ثم لاحقًا مجازر متفرقة في رمسيس والمنصة والحرس الجمهوري، وما تلاها من قمع دموي لأي صوت معارض.
هؤلاء لم يشاركوا في 30 يونيو، ولم يخرجوا للمطالبة بإسقاط حكم أحد، بل طالبوا فقط بعدم إسقاط إرادتهم التي جاءت عبر صناديق الانتخابات. فهل يُعقل أن نحصر الشهداء في من خرجوا، ونتجاهل من سقطوا بعد الخروج؟
القمع يتوحش: السجون والاختفاء القسري
في أعقاب الانقلاب، دخلت مصر في نفق طويل من القمع السياسي.
تم اعتقال عشرات الآلاف -أغلبهم شباب- بتهم تتراوح من الانتماء إلى جماعة محظورة، إلى التحريض، إلى «إهانة الرئيس»، إلى «إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي»!
تحوّلت السجون إلى مقابر. حالات الإهمال الطبي الممنهج، التعذيب، الحرمان من الزيارات، الحبس الانفرادي، والمحاكمات الاستثنائية أصبحت جميعها ملامح يومية للحياة في مصر ما بعد يوليو 2013.
توفي مئات المعتقلين داخل زنازينهم، بعضهم نتيجة الإهمال، وآخرون تحت التعذيب.
العدد غير معروف بدقة، لأن الدولة تُمارس سياسة «الإنكار الكامل»، وتمنع التوثيق المستقل، لكن المنظمات الحقوقية تتحدث عن آلاف من حالات الاختفاء القسري.
ألا يستحق هؤلاء الترحم؟ ألا يستحقون أن نذكرهم عندما يُحتفل بـ«ثورة 30 يونيو»؟
تيران وصنافير: التفريط في الأرض
منذ تأسيس الدولة الحديثة، لم يشهد التاريخ المصري تنازلًا رسميًا عن أراضٍ سيادية، كما حدث في 2016، حين سلّمت مصر جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية بموجب اتفاقية وقّعها البرلمان تحت ضغوط سياسية هائلة، رغم صدور حكمين نهائيين من مجلس الدولة يقضيان بمصرية الجزيرتين.
تم تجاهل القضاء، تجاهل الإرادة الشعبية، وتم توقيع الاتفاق ثم التصديق عليه.
وبهذا، لم تُقمع فقط الأصوات المعارضة، بل قُمعت السيادة نفسها، وتحولت الحدود المصرية إلى ورقة تفاوض، لا مبدأ سيادي.
سد النهضة وإعلان المبادئ: التفريط في الماء
في مارس 2015، وقّع النظام المصري على “إعلان المبادئ” مع إثيوبيا والسودان بشأن سد النهضة، وهو ما يُعد أول اعتراف رسمي بحق إثيوبيا في بناء السد دون شروط فنية ملزمة لحماية حصة مصر من المياه.
الاتفاق أعطى لإثيوبيا ما لم تكن تملكه، وقيد يدي مصر دون ضمانات حقيقية.
واليوم، تقف القاهرة عاجزة أمام اكتمال الملء، دون ضغط حقيقي، ولا قدرة على التفاوض الجاد، ولا خيارات معلنة.
أين ذهبت السيادة؟ أين ذهبت خطوط الأمن القومي؟ ولماذا ندفع ثمن ذلك في مياه شحيحة وزراعة تنهار؟
اقتصاد ينهار وشباب يُقصى
باسم «الإصلاح الاقتصادي»، تم تحميل المواطن الفقير أعباء الديون والقروض وموجات التضخم.
الدين الخارجي تخطى 170 مليار دولار.
الجنيه المصري فقد أكثر من 70٪ من قيمته خلال 10 سنوات.
البطالة في ارتفاع. القطاع العام تم بيعه وخصخصته. المصانع أُغلقت أو جرى تفكيكها لصالح “شركات سيادية”.
الأرض لم تعد تُنتج، والمواطن لا يملك قوت يومه، فيما يُقام أكبر سجن في الشرق الأوسط، وتُبنى عاصمة إدارية لا يسكنها إلا من يملكون الملايين.
في هذا المشهد، كم من الأسر فقَدت أبناءها في محاولات الهجرة؟ كم من شاب انتحر؟ كم من أسرة تشردت؟ هؤلاء ليسوا أرقامًا في إحصاءات اقتصادية، بل ضحايا مباشرة لمسار سياسي بدأ بـ30 يونيو.
غزة ومعبر رفح: حين صمتت مصر
في كل عدوان على غزة، ننتظر من القاهرة الموقف التاريخي.
لكننا، منذ يوليو 2013، لم نرَ سوى صمتًا رسميًا، ومواقف مرتبكة، ومعبرًا مغلقًا معظم الوقت.
الجرحى يموتون على الحدود، والدواء لا يعبر إلا بعد موافقات معقّدة، والدور المصري تراجع لصالح وسطاء آخرين.
مصر التي كانت تُقاتل سياسيًا لأجل فلسطين، أصبحت تتفرج على أطفال غزة يُقصفون، ولا تحرك ساكنًا.
لا احتفال دون محاسبة
لا أحد يعترض على حق الشعب في التعبير، أو الخروج في مظاهرات، أو الاعتراض على سلطة ما.
لكن تحويل 30 يونيو إلى مناسبة رسمية للتطبيل، دون الاعتراف بما ترتب عليها، هو تزوير للتاريخ، وتحقير للضحايا.
لا يمكننا أن نحتفل بثورة، دون أن نُحيي ذكرى الشهداء الذين سقطوا بعدها، والذين سقطوا بسببها.
الترحم على شهداء 30 يونيو لا يعني بالضرورة رفضًا للحدث، بل يعني فقط الاعتراف بالحقيقة: أن ما أعقب هذا اليوم لم يكن مجرد انتقال سياسي… بل كان بداية لمسار دموي، قمعي، استبدادي، دفعت مصر وشعبها ثمنه من دمهم وكرامتهم ومستقبلهم.
ولعل أول خطوة نحو مصالحة حقيقية مع الذات والتاريخ، أن نقف دقيقة صمت، وقلوبنا تقول:
اللهم ارحم شهداء ثورة 30 يونيو… الذين لم يكونوا فيها، لكنهم ماتوا بسببها.