رواية «كفاح طيبة» (1944) هي من أوائل أعمال نجيب محفوظ، وتندرج ضمن مشروعه التاريخي الذي مزج فيه بين الواقع المصري القديم والرمز الوطني المعاصر، مستلهمًا روح المقاومة والتحرر من الاستعمار في كل العصور.
الفكرة العامة:
كفاح طيبة تصور صراع المصريين القدماء ضد الهكسوس المحتلين، لكنها تحمل رمزية واضحة تشير إلى كفاح مصر الحديثة ضد الاستعمار البريطاني.
الرواية تجسد فكرة الوطن المقهور الذي لا يموت، وشعب لا يعرف اليأس، ينتفض دومًا ويضحي ليحرر أرضه.
الرواية:
في طيبة، عاصمة مصر العليا، تعيش مصر مقسمة ومذلولة، تخضع في شمالها لحكم الهكسوس، بينما تنبض روح المقاومة في الجنوب. يبرز الملك سقنن رع كأول قائد يشعل شرارة الكفاح، لكن استشهاده لا يوقف المسيرة.
يتقدم من بعده أبناؤه كامس، ثم أحمس، الذي يتوج الملحمة بانتصار عظيم وطرد الهكسوس من البلاد.
خلال هذا الصراع، نرى شخصيات نسائية قوية مثل الملكة الأم إياح حتب، التي تربي أبناءها على حب الوطن والتضحية، ونلمس معاناة الشعب وانبعاث الأمل من دم الشهداء.
الرواية ليست فقط سردًا لحروب، بل هي أغنية حب لأرض طيبة، وحكاية عن الهوية والكرامة المصرية.
أبرز الفصول:
1- طيبة المقهورة: استعراض لحالة الانقسام والاستعمار وذل الملوك أمام الهكسوس.
2- نداء الوطن: بداية وعي سقنن رع بخطر السكوت، وظهور بوادر الكفاح.
3- الاستشهاد الأول: معركة واستشهاد سقنن رع، وتحوّل موته إلى أيقونة مقاومة.
4- ورثة المجد: دور كامس في مواصلة الكفاح، ثم موته المبكر.
5- الفارس المنتظر: أحمس الصغير، الذي يحمل أمل الأمة، ويتدرج من الطفل إلى القائد المحرّر.
6- التحرير العظيم: الهجوم الأخير على عاصمة الهكسوس، وصرخة النصر الخالدة.
أهم المقولات:
“ليست الحياة إلا وقفة عز، فإما أن نحيا أعزاء أو نموت كرماء.”
“إن الأمة التي لا تحمي ترابها، لا تستحق أن تعيش عليه.”
“سيأتي اليوم الذي تطرد فيه طيبة الغرباء، وتنفض عن جبينها الذل.”
“كفاح طيبة هو كفاح كل المصريين، من النيل إلى البحر.”
أهمية الرواية:
تمثّل تجسيدًا أدبيًا للوطنية في شكل أسطوري وتاريخي.
تُعد من الأعمال النادرة التي تناولت تاريخ مصر الفرعوني بروح معاصرة.
تظهر فيها ملامح اللغة الرفيعة والرمزية السياسية التي تميز بها محفوظ قبل أن ينتقل إلى واقعية الحارة في أعماله اللاحقة.
الرواية الأضعف لنجيب محفوظ
في عام 1944، أصدر الروائي العالمي نجيب محفوظ روايته التاريخية «كفاح طيبة»، التي جاءت ضمن ثلاثيته الفرعونية المبكرة (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة). كانت تلك الروايات محاولة جادة لإعادة بعث الروح المصرية القديمة في قالب أدبي حديث، لكنها – رغم صدقها – لم ترقَ إلى مستوى أعماله العظيمة لاحقًا.
ورغم أن «كفاح طيبة» تحمل قيمة رمزية ووطنية واضحة، فإنها تُعد اليوم من أقل أعمال محفوظ نضجًا وانتشارًا، وهو ما يدفعنا إلى إعادة قراءتها بعين ناقدة، لا للتقليل منها، بل لفهم موقعها الحقيقي في المسيرة الأدبية لأحد أهم أعمدة الرواية العربية.
رواية تقف على أطلال التاريخ
تدور أحداث الرواية في عصر الهكسوس، حين كانت مصر منقسمة ومحتلة، وتبدأ شرارة الكفاح من مدينة طيبة بقيادة الملك سقنن رع، ثم تتواصل بتضحية ابنه كامس، وتنتهي بالنصر الكبير على يد الفتى أحمس، محرر الوطن من الغزاة.
هذه الأحداث ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي مرآة رمزية واضحة لكفاح المصريين ضد الاستعمار الإنجليزي في زمن محفوظ، حيث يعيد تشكيل الذاكرة القومية عبر أبطال فرعونيين صنعوا التاريخ بدمائهم.
لكن… لماذا لم تنجح أدبيًا؟
أولًا: الخطابة تقتل الفن
اللغة في الرواية تتسم بـالمنبرية والتقريرية، فكثير من الحوارات والمونولوجات الداخلية تأتي أشبه بخطب وطنية مباشرة، تفتقر إلى التدرج والانسياب. فالجملة تقول ما تريد قوله دون غموض أو عمق:
“إن طيبة لن تحيا إلا إذا استُعيد شرفها المسلوب!”
ورغم قوة الرسالة، فإنها تُقدَّم بقالب خارج الزمن الأدبي، أقرب إلى بيان سياسي منه إلى مشهد روائي.
ثانيًا: شخصيات بلا روح
بعكس ما عرفناه عن محفوظ من فن البورتريه النفسي في «الثلاثية» أو «اللص والكلاب»، فإن شخصيات «كفاح طيبة» تبدو مثالية وأحادية البُعد:
الملك سقنن رع شجاع لا يخطئ.
الملكة إياح حتب أمّ مثالية تصلح لأن تكون نشيدًا وطنيًا.
أحمس بطل يولد ناضجًا ولا يشك في نفسه يومًا.
غياب الصراع الداخلي، والضعف الإنساني، واللحظات الهشة، يُفرغ الشخصيات من إنسانيتها، ويجعلها رموزًا أكثر منها كائنات أدبية.
ثالثًا: البنية الدرامية المتوقعة
منذ البداية، يعرف القارئ النهاية: الكفاح سينجح، والهكسوس سيرحلون.
هذا اليقين يُضعف عنصر التشويق ويجعل الرواية أقرب إلى ملحمة مدرسية منها إلى سرد حيّ.
القيمة التي تبقى
ورغم هذا، تبقى للرواية قيمتها الرمزية والتاريخية، فقد كانت من المحاولات الأولى الجادة لإعادة الهوية المصرية القديمة إلى الواجهة الأدبية.
كما تُظهر بداية اهتمام محفوظ بثيمات ستتكرس لاحقًا في أعماله الكبرى:
السلطة والصراع،
الشهادة والحرية،
والخلاص الجماعي من القهر.
حين ينتصر الرمز ويخفت الأدب
رواية «كفاح طيبة» ليست منسية لأنها ضعيفة فقط، بل لأنها مرحلة تمهيدية في نضج محفوظ الأدبي، مرحلة حملت بذورًا سيثمرها لاحقًا في أعمال خالدة.
وقد يقال بحق: إنها رواية كتبها الوطني بصدق، لا الأديب بنضج.
وبين ما تقوله الرواية وما كان محفوظ يريد أن يقوله، يتجلى الفرق بين البيان السياسي والفن الروائي… وما بينهما، ولدت عبقريته التي ستغزو نوبل بعد أربعة عقود.