المواصلات الجديدة المريحة ووسائل الاتصال الإليكترونية من مخترعات العصر المتميزة، فالمسافة التي كان يقطعها الإنسان – بصعوبة بالغة ومشقة أي مشقة – في أيام، أصبح يطويها – في راحة وأمن وأمان – في ساعات معدودات..
وكذلك الأخبار والرسائل التي كان يستغرق وصولها من مكان إلى مكان أيامًا أو شهورًا وربما – في بعض الأحيان – سنوات… أصبحت تصل إلى الجهة المرسلة إليها في أقل من لحظة.. في طرفة عين…
فتعبير: «طرفة عين» لم يعد تعبيرًا مجازيًّا خياليًّا.. بل أضحى شيئًا واقعيًّا ملموسًا معاينًا.. وحقيقة واضحة كالشمس في رابعة النهار..
ولكن.. – إلى هذا التطور المدهش في المواصلات والاتصالات.. – هناك حقيقة مرة مؤلمة.. وهي – كما عبر عنها الطنطاوي بقوله: «ربحنا الوقت وخسرنا العواطف»..
نعم.. ربحنا الوقت، ولكن نضبت معاني العواطف والمشاعر، أو طيَّرتها: «السرعة الخيالية والسهولة القياسية في التواصل» في الصحراء والفضاء..
صحيح أن السرعة نجحت في اختراق المسافات وغزو الآفاق وتسريع إنجاز المهمات..، ولكنها قضت على المشاعر وخنقت الخواطر ووأدت الأحاسيس وجففت ينبوع التفجر القريحيّ والتدفق الإلهاميّ..
كان الناس يسافرون بالسفن الشراعية ثم البخارية أو على ظهور الجمال في رحلات الحج، ويصلون إلى مكة المكرمة بعد أسابيع أو شهور… ولكنهم خلال هذه المدة كانوا يعبؤون أنفسهم تعبئة روحية، ويزدادون شوقًا وحنينًا إلى رؤية مهابط الوحي والقرآن وأرض النبوة والصحابة، وكانت تطول لحظات الشوق والانتظار لتلكم الساعات المباركة، التي يتشرفون فيها بالوصول إلى الأراضي الطاهرة، وتقر أعينهم فيها برؤية أقدس البقاع وأشرفها وأحبها إلى الله وإلى كل مسلم صادق، فتلك الأيام التي كانوا يقضونها – في سفن البحر أو على ظهور سفن الصحراء – كانت تؤهلهم ذهنيًّا وعاطفيًّا وإيمانيًّا للاقتباس من أنوار الكعبة المكرمة، وشحن بطاريتهم بقبسة من قبساتها، والاستفادة من منابع النبوة وخيراتها وبركاتها بشكل مطلوب.. فكان إيمانهم يتجدد.. وسلوكهم يطيب، وتوبتهم تصح، وأعمالهم تتطهر، وذنوبهم تغفر، وحياتهم تنقلب تمامًا بالنسبة إلى ما مضى منها..
كان كل ذلك من بركة السفر البطيء والتعبئة الروحية الكافية والتهيئة العاطفية الطويلة لفريضة الحج…
أما اليوم.. فيصلي الحاج الفجر في الهند، والظهر في الحرم.. فأنى له أن يحظى بمشاعر الحاج الذي كان يقضي أيامًا أو أسابيع في البحر أو الغابات الموحشة.. معدًا نفسه لتلقي ما يتلقى هناك من الأنوار والخيرات والبركات.. فربح الوقت.. وخسر المشاعر.. ظفر بالراحة الجسدية، وحُرم العواطف الإيمانية.. ويا له من حرمان.. وما أعظمها من خسارة!
* * *
قس على ذلك أمر الرسائل والخطابات.. فإنها كانت تصل إلى أصحابها بعد مدة تطول أو تقل.. أما الآن -بفضل وسائل التواصل الاجتماعي- صارت تصل في نفس لحظة إرسالها..
ولكن.. منذ أن طغت وسائل التواصل الاجتماعي هذه – رغم اعترافنا بضرورتها وأهميتها ودورها الجِنّي في تأمين النقل لمكاتباتنا وتسهيل تواصلنا بأقصى سرعة ممكنة – منذ أن طغت وبغت وصارت بيد كل من هب ودب.. خسرنا خسارة عظمى وحرمنا منفعة كبرى..
لا شك أن هذه الوسائل قد أدنت البعد..، أو قل: أنهت تصور البعد أو الشعور به..، وقرّبت المسافات الشاسعة.. وحولت أقصى العالم صحنَ الدار.. فالإنسان أصبح بإمكانه أن يُكلّم من يشاء -من إخوانه ومعارفه- وهو يراه.. ويطمئن على صحته، ويطلع على أحواله.. مهما كان بعيدًا آلافًا من الأميال أو وراء البحار..
فهذا أمر لا يستهان به، ولا يُقَلَّل من قيمته.. ومكسب كبير في حد ذاته.. ولكن هناك ناحية أخرى يجب الأخذ بها بعين الاعتبار..، وهي أن لهذه الوسائل – وسائل التواصل الاجتماعي – جناية ذات بال.. جناية هائلة لا تعوض ولا توصف..
إنها جناية على «ثقافة الرسائل والخطابات».. إذا صح هذا التعبير!
نعم. وفّرنا الوقت وحظينا بالسهولة والراحة في التبادل والتناقل والتواصل وما إلى ذلك..
ولكن فقدنا كنزًا عظيمًا وثروة غالية تتمثل في تلك الرسائل والخطابات التي كانت من قديم عماد حياتنا الاجتماعية.. وكانت تعتبر -إلى الماضي القريب- من أهم ما يلجأ إليه الناس والحكومات في مهامها وشؤونها.
فبها -الرسائل- كان الآباء والمربون والأساتذة يزودون أولادهم وتلامذتهم وصغارهم بالتوجيهات والنصائح..
وبها كانت تُوَجَّه الدولُ والحكومات، وتُحدث انقلابات وإصلاحات في المجتمعات، ويمكن أن نقدم مثالًا لذلك : الرسائل والخطابات التي كان وجهها العالم الرباني المرشد الجليل الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المعروف بـ«مجدد الألف الثاني» (٩٧١، ١٠٣٤ ھ – ١٥٦٣، ١٦٢٤م ) إلى الأمراء والمتصلين بالبلاط والمقربين من الملك، يستلفت فيها أنظارهم إلى ضرورة التصدي لمظاهر البدع والخرافات والمنكرات، المنتشرة في البلاد من عهد الملك: «أكبر» الذي حاول القضاء على الإسلام في الهند، فكان لرسائل الشيخ السرهندي دور لا يستهان به في إصلاح الأوضاع واختفاء الكثير من المظاهر والأعمال المنافية للدين والشريعة، وقد طبعت هذه الرسائل باسم «مكتوبات إمام رباني» (١).
و هنا -كذلك- لا غناء عن ذكر «الرسائل» التي لا يكتمل بدونها تاريخ حركة تحرير بلاد الهند، و التي تُعرف -في التاريخ- بـاسم «ريشمي رومال تحريك»، أي « حركة المنديل الحريري »، وتعني تلك الخطاباتِ التي كانت كتبت على ثلاث قطع من ثوب الحرير، وكانت تحتوي على بيان المستجدات والتطورات فيما يتعلق بحركة تحرير البلاد، و وُجِّهَت من بعض رجال التحرير المقيمين بالخارج إلى أحد قادة التحرير بالهند.
فلقد ظلت الرسائل – دائمًا – محل اهتمام بالغ لدى الأجيال الماضية، وكان البريد يعتبر أحد الدعائم للحكومات، لأنه كان يقوم بنقل أوامر الدولة وتسهيل أعمال الحكومة..
ولم يكن البريد -كذلك- بأقل أهمية لدى عامة الناس وخواصهم من الكتاب والعلماء والتجار ومن إليهم، وكان ساعي البريد يُنتظر.. تتعلق به الآمال، وترتقبه العيون، وربما تزداد القلوب خفقانًا لدى مواعيد قدومه في ظروف خاصة.. هل يأتي بما يبشر ويسر.. أو يُقنط ويحزن..
فكم كان البريد يأتي بما لا يعد ولا يحصى من الرسائل، التي لم تكن قيمتها في عددها أو وزنها، ولكن قيمتها كانت تكمن فيما تحمل من العواطف والمشاعر، والأخبار والأنباء، أو الوثائق والمهام.
ثم المشاعر والعواطف -التي كانت تحملها الرسائل- تختلف باختلاف موضوعات محتوياتها ما بين فرح وحزن، وعتب ورضا، وصلة وهجر، ونَبْوَة وإعراض، وجفوة وانقباض، وغضب وامتعاض، وشكوى أخوية، وعطف أبوي، أو عتاب مر، أو اعتراف بخطيئة، أو تذكير بوعد، وحديث القلب إلى القلب… وما إلى ذلك..
وبانهيار «ثقافة الخطابات والرسائل» لم تجف منابع العواطف والمشاعر فحسب، بل خسرت دنيا العلم مصدرًا ثرًّا هامًّا من مصادر العلوم والمعارف والحكم كذلك.. فإن رسائل العلماء والحكماء والمرشدين والأساتذة كانت خزانة العلم والمعرفة.
ومن هنا.. فإن الكثير من رسائل العديد من أهل العلم والتوجيه كانت تجمع وتنشر كُتبًا، تعميمًا للفائدة، فقد تم طبع عدة مجموعات من رسائل الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، التي كان وجهها إلى تلامذته أو محبيه، أو إلى أولي الأمور والأعيان والأمراء وغيرهم. (٢)
وكانت كثرة الرسائل تعتبر من دلائل العظمة أو الشعبية والشهرة للموجهة إليه.
ولكن ذهب كل ذلك اليوم، وفقد البريد أهميته، وساعي البريد لم يعد يحفل به أحد.. لأن أهم ما كان يأتي به البريد: الرسائل.. -التي كانت تحمل أسرار الأفئدة، وتحوي أجمل العواطف، وأهم الأنباء – بشتى فنونها وأشكالها- لم تعد لها عين ولا أثر.. وحلت محلها – الرسائل – هذه الوسائل والوسائط التي لن تسد مسد الرسائل والخطابات المرحومة..
فالمجال – عبر الخطابات والرسائل – للتعبير عن العواطف والمشاعر كان أوسع وأرحب.. وآمن وأضمن للسرية والتستر والكتمان..
وكان الإنسان يجد من هذه الرسائل متنفسًا ينفس به عن نفسه.. عن خواطره.. عن همسات روحه، وخلجات وجدانه، وخفقات قلبه، وصور من صنع أحلامه… بحرية أتم وأكثر.. وفي مأمن من أن يطلع على أسرار فؤاده مطلع ممن لا تعنيه.
قد يقول قائل: أنت تستطيع أن تعبر عن عواطفك عبر وسائل التواصل الاجتماعي… عبر الواتساب مثلًا.. فلا فرق بين أن تعبر به أو بالرسائل..
أقول: أين العواطف الآن؟ فسهولة التواصل وكونه بمتناول اليد قد حال دون تفجر ينبوع العواطف، والوصالُ -بأي طريق كان- يسد منابع الإلهام، بينما الهجر والانتظار يفجران القريحة، ومن أعظم أسباب العطاء والإلهام.. والبعدُ يوحي للإنسان ما لا يوحي له القربُ من الخواطر..
إنسان اليوم يتواصل عبر وسائل التواصل، فيقر قراره، وينطفئ لهيب الحنين إلى اللقاء وحبِّ القرب.. فتبرد عواطفه، أو تخف حدتها…
أما في الزمن الذي سبق هذه الوسائل.. فكانت المشاعر تتأجج.. والعواطف تلتهب لصعوبة التواصل، وطولِ الفراق، وامتدادِ الهجر.. فكان الإنسان يوْدِع هذه الرسائل عواطفه ومشاعره..
لقد كان عصر البريد مثل الطائر الغرِد، يتغنى بالألحان والنغمات، يطير في الغيم والصحو، ويشدو في الطرب والشجو، أو كالحمام الزاجل يحمل رسائل أهل الحب والوفاء من مكان إلى مكان..
فوا أسفاه.. لقد ولّى عصر: «ثقافة الرسائل والخطابات» من غير رجعة..
نعم. لقد ودَّعنا ذلك العصر اللذيذ.. وفي قلوبنا – نحن أبناء ذلك الجيل المخضرم الذي أدرك ذلك العصر الذي كان البريد في عز ازدهاره وقمة نشاطه – ألم، وشعورٌ بالحرمان، وتوجعُ كتوجع من فقد عزيزًا عليه وحبيبًا إليه..
والجيل الحاضر لا يعرف – مع الأسف – لذة ذلك العصر.. عصر البريد، الذي حُفظ في متحف التاريخ للأبد.
كنت في أوائل هذا القرن الهجري في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أدرس في كلية القرآن الكريم، وكان مكتب البريد على غلوة من الكلية، فكنت كلما وجدت فرصة.. خاصة أثناء الفسحة.. ذهبت إلى المكتب، وفتحت صندوق البريد الخاص بنا – نحن طلاب الندوة -، فإذا وجدت فيه رسالة باسمي.. فلا تسأل عن فرحي.. وخاصة إذا كانت الرسالة من والدي فضيلة الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي رحمه الله (٣)، فكأنني عثرت على كنز، كنت أعيد قراءة الرسالة مرات وكرات، وأقبلها وأضعها على رأسي.. لأنها رسالة خطها والدي بيراعه.. بدم قلبه.. ولأنها تطلعني على أحوال أهل بيتي، إلى جانب ما كانت تحتوي من توجيهات ونصائح أبوية حانية غالية، إذا جُمعت كانت كتابًا ينفع الطلاب والشباب بصفة خاصة.
فالبريد – وخاصة ما كان يحمل من الرسائل والخطابات المتبادلة بين الأحباب والأقرباء والمعارف – صار قصة ماضية تروى..
فهل طوي عهد «ثقافة الخطابات» إلى الأبد؟
وهل الخطابات من كبرى ضحايا: وسائل التواصل الاجتماعي يا ترى؟
لعل الجواب -بل بالتأكيد- يكون بـ«نعم»؟!
الهوامش:
(١) تسمى الرسائل والخطابات في الأردية «مكتوبات» أو «خطوط».
(٢) من نافلة القول أن أذكر أن الله وفقني – أيضا – لجمع خطابات بعض أهل العلم، الموجهة إليّ، وهي خطابات صديقي الفاضل الكريم الشيخ الدكتور عمر بن محمد السبيل رحمه الله (١٣٧٨ھ، ١٩٥٨م – ١٤٢٣ھ، ٢٠٠٢م ) – إمام وخطيب الحرم المكي الشريف) – التي كنت تلقيتها منه، فقد جمعتها في كتاب، أسميته : “خطابات فقيد الحرم : الشيخ الدكتور عمر بن محمد السبيل رحمه الله إمام وخطيب الحرم المكي الشريف”، وتحتوي المجموعة ١٧ رسالة تتضمن مشاعر ودية نبيلة، ولعله من المناسب أن أنقل هنا خطاب الشيخ عمر السبيل، الذي كان أرسله إلي بعد استلام العدد الخاص بالإمام الندوي من مجلة الصحوة الإسلامية.
التاريخ: ٠١/ ٣/ ١١٢١ھ
فضيلة الأخ العزيز الشيخ / محمد نعمان الدين الندوي سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد. فأسأل الله تعالى لكم دوام الصحة والعافية والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
تلقيت كتابكم الكريم والمرفق به نسخة من مجلة الصحوة الإسلامية، العدد الممتاز عن فقيد أمة الإسلام سماحة العلامة الجليل الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله – والذي تضمن عددًا من المقالات القيمة لبعض العلماء والمشايخ الأجلاء الذين سلطوا الضوء فيها على شخصية سماحته وجهوده في الدعوة إلى الله وأثره في الأمة، فأديتم بذلك بعض ما يجب لسماحته رحمه الله، ولقد لفت نظري عنايتكم بما كتبه محبكم عن سماحته، وإن كنت أرى أنه لا يستحق كل هذه العناية إلا أن محاسن شيمكم وحسن ظنكم، وصادق مودتكم تأبى إلا ذلك، فشكر الله تعالى لكم ذلك الصنيع، كما أحسنتم في ذكر بعض الذين فقدتهم الأمة في العام المنصرم، مشيدين ببعض جهودهم وآثارهم، فشكر الله تعالى لكم ذلك الجهد المتميز، وجعله في موازين أعمالكم، وسدد دومًا على طريق الخير خطاكم.
أشكركم على تفضلكم بالإهداء، سائلًا المولى عز وجل أن يزيدكم من فضله وتوفيقه، وتقبلوا خالص تحياتي وبالغ تقديري، ولا زلتم محفوظين بحفظ الله، مشمولين برعايته وعنايته،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم
عمر بن محمد السبيل
إمام وخطيب الحرم المكي الشريف
(٣) من كبار علماء الهند، درّس في ندوة العلماء – نحو خمسين سنة – أمهات الكتب من علوم الشريعة، وكان رئيس قسم التفسير بها، له أكثر من عشرين كتابًا في مختلف الموضوعات العلمية والفقهية، من أهمها: قضايا فقهية معاصرة، صدر عن دار القلم.
توفي يوم الجمعة: ١٧ يناير ٢٠٢٠م.