مع اقتراب مفاوضات الهدنة المحتملة في قطاع غزة، يكثف الجيش الإسرائيلي هجماته الجوية مستهدفًا المباني السكنية والبنية التحتية الحيوية، في خطوة يُنظر إليها على نطاق واسع كجزء من سياسة الأرض المحروقة. خلال اليومين الماضيين فقط، نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي أكثر من 150 غارة جوية، خلّفت دمارًا واسعًا وخسائر بشرية جسيمة، ما أثار تساؤلات حول أهداف هذا التصعيد المكثف في لحظة يفترض أن تكون تمهيدًا للتهدئة لا للتصعيد.
تقارير إعلامية وشهادات ميدانية تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي يتبع استراتيجية تدمير منهجي تستهدف البنية التحتية المدنية بشكل مباشر. صحيفة “هآرتس” العبرية نقلت عن ضباط في الجيش تأكيدات بوجود أوامر عليا تقضي بهدم أكبر عدد ممكن من المباني قبل التوصل إلى أي اتفاق هدنة، في محاولة لتغيير الواقع الميداني بشكل جذري وتعزيز الموقف التفاوضي الإسرائيلي. بينما أشارت مجلة +972 إلى أن هذا التدمير الواسع قد يكون مدفوعًا برغبة في خلق مناطق عازلة داخل غزة أو دفع السكان نحو النزوح الدائم، ما يمثل تحوّلًا خطيرًا في الأهداف العسكرية نحو تغيير ديموغرافي على الأرض.
القصف طال أحياء كاملة في مناطق مثل جباليا وحي الزيتون ورفح، حيث دمرت آلاف الوحدات السكنية، ووفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة فإن 90% من أحياء رفح أصبحت أنقاضًا. لم تقتصر الغارات على المباني السكنية فقط، بل شملت شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، إلى جانب قصف مباشر طال مستشفيات كمستشفى ناصر ومراكز إيواء تابعة للأمم المتحدة، ما أدّى إلى شلل شبه كامل في الخدمات الإنسانية والطبية.
وزارة الصحة في غزة أعلنت أن الغارات الأخيرة أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة المئات، معظمهم من المدنيين، وبينهم عدد كبير من النساء والأطفال. ومنذ بدء التصعيد في أكتوبر 2023، تجاوز عدد الضحايا 53,000 قتيل وأكثر من 120,000 مصاب، بينما تشير التقديرات إلى تدمير نحو 320,000 منزل، في تصعيد غير مسبوق. نازح من جباليا قال في تصريح لوكالة محلية: “لم نعد نملك منزلًا ولا حتى ملجأً. القصف لا يتوقف، ولا يوجد مكان آمن”.
هذا النهج العسكري، الذي لا يميز بين هدف عسكري ومدني، يمثل بحسب منظمات حقوقية خرقًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف المدنيين والأعيان المدنية. منظمة هيومن رايتس ووتش اتهمت إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض، فيما وصفت منظمة العفو الدولية القصف بأنه “عقاب جماعي”، مطالبة بتحقيقات دولية في جرائم الحرب المحتملة. الأمم المتحدة من جهتها دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات إنسانية عاجلة، محذّرة من كارثة إنسانية غير مسبوقة.
الدول الأوروبية أبدت قلقها من التصعيد، حيث دعت فرنسا وإسبانيا إلى حماية المدنيين ووقف استهدافهم، بينما واصلت الولايات المتحدة دعمها العسكري لإسرائيل، رغم الانتقادات المتزايدة داخل الكونغرس الأمريكي والرأي العام. أما الدول العربية، وعلى رأسها مصر وقطر والسعودية، فقد دانت بشدة الهجمات، مطالبة بتدخل دولي عاجل ورفع الحصار وتسهيل إدخال المساعدات.
في ظل هذه التطورات، تزداد المخاوف من أن يكون التصعيد الأخير محاولة لفرض أمر واقع جديد قبل وقف إطلاق النار. وبينما تستمر عمليات القصف والهدم، تتفاقم المعاناة الإنسانية، ويزداد الضغط على السكان المدنيين الذين يعيشون أوضاعًا مأساوية غير مسبوقة.
السؤال الذي يبقى معلقًا: هل سينجح هذا النهج التدميري في ترجيح كفة الاحتلال سياسيًا؟ أم أن المجتمع الدولي سيتحرّك أخيرًا لوضع حد لهذا التصعيد الوحشي؟