سافرت مع شيخٍ كريم، وتجولنا في ديارٍ بهيجة، وغاباتٍ أنيسة، وأنهارٍ جارية، وشلالاتٍ غزيرة، تسعد الخاطر، وتسرّ الناظر.
فكان عامّة وقته بين دعاء وتهليل، وتسبيح وتكبير.
فقلت له:
انشغلتَ عنّا كثيرًا يا شيخ!
فقال:
وما لي لا أنشغل، وكلُّ ما حولنا يُسبّح بحمده، ويهتف بذكره؟
قال تعالى:
> ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]،
وقال سبحانه:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [الإسراء: 44].
فكيف تريدني ملازمةَ الصمت، ونحن – في عامة أوقاتنا – عن تسبيحه غافلون، بل لاهون؟
وما لي لا أنشغل، يا أخي، وكلُّ ما نراه حولنا يدلّ على دقيق علمه سبحانه، وجليل قدرته، وتمام لطفه، وجميل خلقه، وعظيم مجده وكبير عظمته.
وكله برهان على سعة رحمته، ووافر كرمه وإحسانه، وكثير عفوه، وعظيم حلمه:
> “وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدُ”
خالقٌ عظيم، مَلِكٌ مدبّر، رازقٌ رؤوف، وهّابٌ محسن…
> ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14].
وإنّي لأعدُّ، يا أخي، من لا يتفكر فيمن حوله من الآيات العظام لأعمى، ومن لا يقدّسه ويسبّح بحمده لأصمّ!
ألا ترى – يا أخي – أنّا في جنةٍ لله في الأرض؟
فأسأل الله أن يمنّ علينا جميعًا بسعة جنّاته يوم العرض، وبالفردوس الأعلى، منّةً منه وكرمًا.
ثمّ، يا أخي، قارنْ عظيم غفلتنا وشديد لهونا عن ذكر الله والتفكّر في ملكوته في النفس والآفاق، بقول ذلك الأعرابي العارف، الذي سأله سائل:
بمَ عرفتَ ربَّك؟
فأجاب:
البعرة تدلّ على البعير، وآثار الأقدام على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فِجاج، ألا تدلّ على اللطيف الخبير؟
ولله دَرُّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إذ قال في الثلاثة الأصول، موجهًا معلِّمًا:
> “وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: أعرفه بآياته ومخلوقاته.
ومن آياته: الليل والنهار، والشمس والقمر.
ومن مخلوقاته: السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما.”
ثم ساق الدليل من قول الله تعالى:
> ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37]،
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
رزقنا الله تعالى الفوز بمعرفته، والظفر برضاه، والشكر له على وفير نعمه، وعظيم حلمه، وكثير عفوه، وإمهاله.
إنّ ربي لجوادٌ كريم.
والله الهادي.