مقدمة
شهد المذهب الشيعي الإثني عشري تحولات جوهرية في بنيته الفكرية والتنظيمية عبر القرون، بدءًا من انتشاره في المشرق العربي، خاصة في جبل عامل، وصولًا إلى ترسيخ مفهوم “ولاية الفقيه” كنظرية حكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لقد لعبت الظروف السياسية والاجتماعية والدينية دورًا محوريًا في هذا التطور، وكان لاستقدام علماء جبل عامل إلى إيران الصفوية بداية هذا التحول العميق الذي جمع بين الفقه والدولة في قالب نظري متكامل، بلغ ذروته في الثورة الإسلامية عام 1979. تهدف هذه الورقة إلى تتبّع هذا المسار التاريخي اعتمادًا على المنهج الوصفي والتحليلي والنقدي، مستندين إلى أبرز المصادر التاريخية والفقهية.
أولًا: تشييع الدولة الصفوية ودور جبل عامل
مع تأسيس الدولة الصفوية على يد الشاه إسماعيل الأول (1501م)، أعلن التشيع الإثني عشري مذهبًا رسميًا للدولة، في خطوة هدفت إلى توحيد الهوية الدينية للشعب الإيراني ومواجهة الدولة العثمانية السنيّة. ولأن إيران كانت سنية في غالبها، واجه الصفويون نقصًا في الكوادر العلمية الشيعية القادرة على نشر المذهب وإدارته، مما دفعهم إلى استقدام علماء من جبل عامل بلبنان، ومن أبرزهم الشيخ علي الكركي المعروف بـ “المحقق الكركي” (تـ 940هـ/1533م)، الذي نُصّب بمنصب “نائب الإمام”، وأوكلت إليه سلطة شرعية شبه مطلقة في الشؤون الدينية.
أسس الكركي وزملاؤه حوزات علمية، منها حوزة أصفهان، التي لعبت دورًا محوريًا في نشر الفقه الإمامي وتعزيز العقيدة الإثني عشرية. وبتأثير هؤلاء، نشأت طبقة من العلماء الإيرانيين الذين شكلوا نواة التشيع الفقهي في القرون التالية.
ثانيًا: من نائب الإمام إلى نظرية ولاية الفقيه
لقد شكّلت نظرية “نيابة الفقيه” عن الإمام الغائب في العهد الصفوي بذرة نظرية “ولاية الفقيه” المعاصرة. الكركي نفسه أكد أن الفقيه الجامع للشرائط يمارس صلاحيات الإمام في الأمور الشرعية والمدنية، وهو طرحٌ أثار جدلاً حينها، لكنه ترسّخ تدريجيًا.
في العهد الصفوي المتأخر، تطور هذا التصور مع علماء بارزين مثل محمد باقر المجلسي (ت:1111هـ/1699م)، الذي بالغ في تعظيم دور الفقهاء في المجتمع، واعتبرهم أوصياءً على الأمة. وقد أسهمت حوزة أصفهان في ترسيخ هذا الفهم الذي يربط بين المرجعية الفقهية والقيادة الاجتماعية.
في العصر القاجاري، بدأ يظهر الفارق بين المرجعية الدينية والسلطة السياسية، إلا أن التصورات الفقهية كانت تتجه نحو تعزيز سلطة الفقيه، كما يظهر في كتابات الشيخ الأنصاري (ت:1281هـ) وغيره، وصولًا إلى بداية القرن العشرين.
ثالثًا: الخميني وتأسيس ولاية الفقيه كنظام حكم
شهد القرن العشرون بروز آية الله روح الله الخميني (1902–1989م) كأبرز فقيه طوّر نظرية “ولاية الفقيه” لتصبح أساسًا لنظام الحكم الإسلامي، وذلك في كتابه الشهير الحكومة الإسلامية (1970). رأى الخميني أن غيبة الإمام المعصوم لا تُسقط حق الأمة في إقامة حكم إسلامي، وأن الفقيه العادل هو الأجدر بتولي السلطة الدينية والسياسية معًا.
وقد طبّق هذا التصور عمليًا بعد الثورة الإسلامية سنة 1979، حيث أُنشئت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بموجب دستور يمنح “الولي الفقيه” (المرشد الأعلى) سلطات واسعة، منها تعيين القادة السياسيين والعسكريين، والإشراف على السلطات الثلاث.
رابعًا: المرشد الأعلى وتكريس السلطة الدينية
منذ وفاة الخميني عام 1989، خلفه آية الله علي خامنئي في منصب “المرشد الأعلى”، الذي يمثل التجلي المؤسسي الكامل لولاية الفقيه. وهو يحتكر السلطات العليا في الدولة: من تعيين رئيس القضاء، إلى قيادة القوات المسلحة، مرورًا بتحديد السياسات العامة للدولة.
هذا التطور لا يخلو من نقد داخلي في الحوزات العلمية نفسها، إذ يرى بعض الفقهاء أن ولاية الفقيه لا تعني الهيمنة المطلقة على الدولة، بل تقتصر على الإرشاد الديني أو القضاء، كما كان شائعًا في فقهاء النجف.
رابعاً: مقاربة تاريخية
يُبرز التماثل بين الداعية أبي عبد الله الشيعي، مؤسس الدعوة الفاطمية في المغرب زمن الدولة العبيدية (297–361هـ)، وبين حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، مدى تشعّب المشروع الشيعي السياسي وتشابك أذرعه في مختلف العصور. كلاهما أدّى دورًا وظيفيًّا يتجاوز البُعد المذهبي إلى خدمة مشروع سلطوي أوسع: فالأول مهّد لقيام دولة الخلافة الفاطمية باسم الإمامة، والثاني يعمل كذراع إيرانية استراتيجية في الشرق الأوسط باسم “المقاومة”. كلا الشخصيتين اعتمدتا على الخطاب العقائدي في تعبئة الجماهير، واكتسبتا شرعية ميدانية بفضل الاضطرابات الإقليمية. غير أن المصير المحتوم لكليهما يتقاطع في كونه مرهونًا بالتحولات الدولية والداخلية التي لا تعترف بالولاءات العقائدية، بل بالمصالح الجيوسياسية، مما يجعل النهاية أشبه بانهيار مشروع طارئ مهما طال زمنه.
خاتمة
لقد مرّ المذهب الشيعي الإثني عشري بتحول كبير من كونه مذهبًا فقهيًا محافظًا، إلى أن أصبح أساسًا لنظام حكم سياسي. وكان لعوامل متعددة مثل الهجرة العلمية من جبل عامل، وظروف الدولة الصفوية، والاجتهادات الفقهية في العصر الحديث، الدور الأكبر في هذا التحول.
أصبحت ولاية الفقيه حجر الزاوية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنها تظل موضوع جدل فقهي وسياسي داخل وخارج إيران. والتاريخ يثبت أن الفقه الشيعي لم يكن جامدًا، بل مرنًا، يعبّر عن تفاعلاته مع السلطة والواقع، وفق شروط كل مرحلة تاريخية.
المراجع:
حسين الزاير، علماء جبل عامل في إيران الصفوية
محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتقليد في الإسلام
روح الله الخميني، الحكومة الإسلامية
حميد عنایت، الفكر السياسي الشيعي المعاصر
عبد الكريم سروش، نقد ولاية الفقيه
أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي