في صيفٍ لم يرحم أحدًا، سالت دماء الأبرياء كأنها أنهارعارمة، اجتاحت ضمير الإنسانية قبل أن تغمرأرض البوسنة، ثلاثون عامًا مرت وما زال الصمت الثقيل يلف تفاصيل تلك الكارثة التي شهدتها بلدة صغيرة هزت العالم بقسوتها وحجم المأساة التي خلّفتها مجزرة سربرنيتسا التي أقرّتها الأمم المتحدة إبادة جماعية بدم بارد، وذهب ضحيتها آلاف الرجال والفتيان والنساء، بينما وقفت قوات دولية عاجزة عن حمايتهم بقصد.
الحرب التي مزّقت نسيج البوسنة
عندما انهارت يوغوسلافيا العجوز في مطلع التسعينيات، تشظّت أحلام التعايش بين الصرب والكروات والبوشناق” المسلمون البوسنيون” فاشتعلت حرب البوسنة التي استمرت ثلاث سنوات من القتل المنظّم والتطهير العرقي، ليكتوي المسلمون البوسنيون بنيرانها الأكثر شراسة.
وفي يوليو 1995 اقتحم جيش صرب البوسنة بقيادة راتكو ملاديتش بلدة سربرنيتسا الآمنة تحت حماية الأمم المتحدة، ليرتكبوا فظائعهم بحق ثمانية آلاف مسلم بينما فرّت النساء والأطفال إلى مجمع تابع لقوات الهولنديين الذين سلّموا الضحايا ببرود.
جرائم لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية
لم تكن طلقات الرصاص سوى النهاية السريعة للبعض فالكثيرون دُفنوا أحياء، وأُجبر الآباء على مشاهدة أبنائهم يُذبحون أمام أعينهم، لتبقى تلك المشاهد جاثمة في ذاكرة الناجين الذين شهدوا أمام المحكمة الجنائية على فظائع أُطلق عليها “أسوأ ما عرفته البشرية”.
حُكم على ملاديتش وكاراديتش بالسجن المؤبد بتهمة الإبادة الجماعية لكن إنكار الصرب للمجزرة ما زال يتجدّد حتى اليوم.
سيطرة الصرب
وتحوّلت البلدة التي كانت يومًا رمزًا للتعددية إلى مدينة يهيمن عليها الصرب بعد تغيير ديموغرافي قسري، بينما تنتظر آلاف العائلات معرفة مصير أحبائها في مقابر جماعية لم تُكتشف بعد، وفي 2024 خصصت الأمم المتحدة يوم 11 يوليو ذكرى عالمية للمجزرة، لكن شواهد القبور البيضاء في بوتوتشاري تظلّ شاهدة على جريمة لم يكفِ ثلاثون عامًا لمداوة جراحها، وفي سربرنيتسا نفسها يتم إحياء الذكرى خلف أبواب مغلقة خوفًا من الاعتداءات كما حدث في السنوات السابقة حيث تعرض الناجون للضرب والإهانة.
11 يوليو 1995.. اليوم الذي لن ينساه التاريخ
على مرأى من قوات الأمم المتحدة الهولندية التي كانت مكلفة بحماية “المنطقة الآمنة” اقتحمت قوات صرب البوسنة بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش البلدة، وبدأت عملية منهجية دامت أسبوعين تم خلالها فصل الرجال والفتيان عن النساء والأطفال، نقلت النساء في حافلات بينما اقتيد الرجال إلى حقول ومستودعات حيث أعدموا جماعيًا بطرق وحشية بعضهم قتل بالرصاص وبعضهم ذبح بالسكاكين وآخرون دفنوا أحياء.
ضحايا بلا أسماء
حتى اليوم لم يتم التعرف على رفات ألف ضحية تقريبًا من أصل ثمانية آلاف جثة تم العثور عليها في 93 مقبرة جماعية حول سربرنيتسا، وبعض الجثث تعرضت للتشويه المتعمد بعضها الآخر تم تفكيكه ونقله لطمس الأدلة.
محاكمات لا تعيد الأحياء
أدانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة 49 شخصًا منهم ملاديتش وكاراديتش، الذين حوكما بالسجن المؤبد لكن كثيرين من المسؤولين ما زالوا أحرارًا في صربيا وجمهورية صرب البوسنة حيث يتم تمجيدهم كأبطال.
إنكار متواصل
في الذكرى الثلاثين للمجزرة أقر برلمان صرب البوسنة تقريرًا ينكر الإبادة الجماعية، وزعيمهم ميلوراد دوديك وصف المجزرة بـ”الخطأ الكبير” فقط، بينما ترفض صربيا الاعتراف بالإبادة رغم أن محكمة العدل الدولية أقرتها عام 2007.
سربرنيتسا اليوم.. بلدة تتنكر لماضيها
تحولت البلدة التي كان 75% من سكانها من المسلمين قبل الحرب إلى معقل للصرب حيث لا يتجاوز المسلمون 7% من السكان اليوم تم محو معظم المعالم الإسلامية، وشوارع سميت بأسماء مجرمي الحرب مدارس تدرس رواية منكرة للمجزرة.
دماء على ثلوج الأمم المتحدة
كوفي عنان الامين العام للأمم المتحدة الأسبق، اعترف بأن سربرنيتسا ستلاحق تاريخ المنظمة الدولية للأبد، الوثائق تكشف أن قوات الهولنديين لم تطلب الدعم الجوي الذي كان يمكن أن ينقذ الأرواح بل سلموا خمسة آلاف لاجئ للصرب بعد وعود كاذبة بالأمان.
هذه ليست مجرد ذكرى، إنها جريمة مستمرة ما دام الإنكار قائمًا وما دام الضحايا بلا قبور وما دام الجلادون أحرارًا.