تشهد الساحة السودانية تصعيدًا جديدًا في وتيرة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بعد اندلاع معارك عنيفة في المناطق المتاخمة لمدينة الأبيض، عاصمة إقليم كردفان، يوم الأحد، في إطار ما وصفه مراقبون بجولة “كر وفر” بين الطرفين، وسط تقارير متضاربة عن سيطرة مؤقتة وعمليات التفاف عسكرية خلفت ما يقرب من 700 قتيل من الجانبين، في واحدة من أكثر المعارك دموية منذ بداية الحرب.
السيطرة على “أم صميمة”.. وتراجع تكتيكي
بدأت المعركة بإعلان قوات الدعم السريع سيطرتها على منطقة “أم صميمة” الاستراتيجية، الواقعة على بعد نحو 60 كيلومترًا جنوب غرب مدينة الأبيض، في خطوة عدّتها القوات جزءًا من خطة عسكرية لتوسيع نفوذها في شمال كردفان. لكن بعد ساعات، خرجت منصات إعلامية موالية للجيش لتعلن نجاح القوات الحكومية في عملية التفاف عسكرية أدت إلى استعادة المنطقة وقتل ما يزيد عن 270 من قوات الدعم السريع.
وتكمن أهمية منطقة أم صميمة في موقعها الجغرافي الحاسم، إذ تُعد نقطة حدودية فاصلة بين ولايتي شمال وغرب كردفان، ما يمنح الطرف المسيطر القدرة على التحكم في التحركات العسكرية والطرق المؤدية إلى إقليمي دارفور وكردفان، اللذين يمثلان مركز الثقل الاستراتيجي للصراع السوداني الحالي.
خسائر ثقيلة للطرفين
وفيما تحدثت قوات الدعم السريع عن تكبيد الجيش خسائر بشرية تجاوزت 470 قتيلاً، إضافة إلى الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات، تؤكد مصادر تابعة للجيش السوداني أن العملية الأخيرة أعادت التوازن الميداني في المنطقة، وأفشلت محاولات التمدد التي تقودها الدعم السريع في محيط الأبيض.
ويُعد هذا الاشتباك واحدًا من سلسلة من المعارك التي يشهدها إقليم كردفان، ثاني أكبر أقاليم السودان، منذ أكثر من أسبوع، ضمن محاولات الجيش لاستعادة مناطق استراتيجية فقدها مؤخرًا، وتشكل جسورًا مهمة للإمدادات والتحركات العسكرية نحو الغرب، وتحديدًا نحو إقليم دارفور.
السياق الأوسع: حرب مستعرة منذ 2023
يأتي التصعيد الحالي في ظل استمرار الصراع المسلح الذي اندلع في منتصف أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”. ومنذ اندلاع الحرب، تحوّل السودان إلى ساحة صراع معقدة تتداخل فيها البُعدان العسكري والسياسي، وسط غياب أي أفق واضح للحل.
ويُعد إقليم كردفان نقطة ارتكاز مركزية في هذا الصراع، كونه يربط بين وسط السودان وشماله من جهة، وإقليم دارفور من جهة أخرى. وتشير التقديرات إلى أن قوات الدعم السريع تسيطر حاليًا على أكثر من 90% من مناطق الإقليم، بينما يحاول الجيش إعادة التموضع في المناطق المتبقية، ومنها مدينة الأبيض التي لا تزال تحت سيطرته.
وفي موازاة ذلك، تتواصل الاشتباكات العنيفة في مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، والتي تعتبر آخر معاقل الجيش والقوات المتحالفة معه في الإقليم. وتحظى الفاشر بأهمية استراتيجية قصوى، إذ أن سقوطها بيد الدعم السريع سيُعزز من قبضتها الكاملة على دارفور، ويُقصي الجيش من أحد أكبر أقاليم البلاد.
خلفية النزاع السوداني
يعود الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى جذور معقدة، تعود إلى فترة ما بعد سقوط نظام عمر البشير في 2019. وبينما حاولت القوى السياسية الانتقال إلى حكم مدني، بقي الجيش والدعم السريع في حالة توتر مستمر، تصاعد إلى مواجهات مسلحة واسعة النطاق في أبريل 2023، بعد خلافات على هيكلة القوات المسلحة ودمج الدعم السريع ضمن الجيش النظامي.
وقد أسفر النزاع عن كارثة إنسانية مستمرة، حيث نزح ملايين المدنيين داخل السودان وخارجه، وسط تقارير متزايدة عن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وانهيار شبه كامل في مؤسسات الدولة، في وقت فشلت فيه جهود الوساطة الإقليمية والدولية في وقف إطلاق النار بشكل دائم.
مشهد غامض ومخاوف متصاعدة
تواصل أطراف النزاع تبادل السيطرة على المدن والمناطق، مع غياب واضح لأي حل سياسي قريب. ويزداد المشهد تعقيدًا مع تصاعد الصراعات المحلية في الولايات، خصوصًا في ظل محاولات بعض القادة السياسيين والعسكريين تشكيل حكومات موازية.
وفي ظل هذا الانفلات الأمني، عاد الجدل في الداخل السوداني مؤخرًا حول تعيين شخصيات ذات صلة بالنظام السابق في مناصب وزارية، مما يثير قلقًا إضافيًا بشأن مستقبل العملية السياسية في البلاد.
مع استمرار القتال في كردفان ودارفور، وغياب الأفق السياسي، يبقى السودان في دوامة حرب قد تستمر لفترة طويلة، ما لم يتحقق توافق وطني شامل يوقف آلة الحرب وينقذ البلاد من مزيد من الانهيار.