في ذكرى استشهاده، يسطع اسم محمد الضيف، الرجل الذي تحول من فنان مسرحي ناشئ إلى أسطورة عسكرية حقيقية في سجل المقاومة الفلسطينية، وواحد من أكثر المطلوبين للاحتلال الإسرائيلي على مدار عقود. قائد أركان كتائب عز الدين القسام، و”شبح غزة” الذي أفلت من ست محاولات اغتيال إسرائيلية، قبل أن يُعلن عن استشهاده في يناير 2025.
من المسرح إلى المقاومة
ولد محمد دياب إبراهيم المصري، المعروف بـ”محمد الضيف”، عام 1965 في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة، لعائلة لاجئة هجّرت قسرًا من بلدة القبيبة عام 1948. نشأ في بيئة فقيرة، عمل في سن مبكرة ليساعد أسرته، وبرز خلال دراسته الجامعية في الجامعة الإسلامية بغزة طالبًا نشطًا في الكتلة الإسلامية والمجال الفني، حيث أسس فرقة “العائدون” المسرحية الإسلامية، أول فرقة من نوعها في فلسطين.
لكن المسرح لم يكن سوى محطة أولى في طريقه إلى ساحة النضال، إذ سرعان ما انخرط في صفوف حركة “حماس” متأثرًا بفكر الإخوان المسلمين، ووجد في العمل المقاوم ساحة أخرى لإبداعه، وإن هذه المرة بحجارة وسلاح، وليس بالنصوص المسرحية.
الضيف المراوغ.. عين القسام الحارسة
تلقبه إسرائيل بـ”رأس الأفعى”، وتسميه المقاومة بـ”الضيف”، نسبة إلى تحركاته المتنقلة والمراوغة، وهو اسم حركي تحول إلى رمز في ثقافة المقاومة الفلسطينية. لمع اسمه في تسعينيات القرن الماضي بعد اغتيال القائد عماد عقل، وتولى لاحقًا قيادة كتائب القسام، وأشرف على العديد من العمليات النوعية أبرزها أسر الجندي نخشون فاكسمان، وسلسلة عمليات الرد على اغتيال يحيى عياش عام 1996.
ورغم كل محاولات التتبع، ظل “الضيف” كابوسًا دائمًا للأجهزة الأمنية الإسرائيلية، لحرصه الشديد على العمل في الظل، دون استخدام وسائل اتصال حديثة أو الظهور الإعلامي. لم يُرَ وجهه علنًا منذ عام 2002، واقتصر حضوره على بيانات مسجلة في لحظات مفصلية، كان آخرها إعلان عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023.
مخطط الهروب الكبير من خمس محاولات اغتيال
استهدفته إسرائيل مرارًا: في 2001، 2002، 2003، 2006، و2014، لكن في كل مرة كان يفلت. في إحدى الغارات، فقد زوجته وطفليه، وفي أخرى أُعلن عن استشهاده ثم تبين لاحقًا أنه نجا. كان دائم التنقل، حذرًا إلى درجة الجنون، لا ينام مرتين في المكان نفسه، يحيط نفسه بدائرة صغيرة من الثقات.
وفي 13 يوليو 2024، شنّت إسرائيل غارة جوية عنيفة على منطقة المواصي في خان يونس، وزعمت اغتياله، إلا أن كتائب القسام نفت ذلك حينها. وبعد أشهر، وفي 30 يناير 2025، أعلن الناطق باسم القسام “أبو عبيدة” رسميًا استشهاد محمد الضيف وعدد من قادة المجلس العسكري.
من المقاومة بالسلاح إلى بناء القوة
لم يكن الضيف مجرد مقاتل، بل مهندس تطوير المقاومة، أشرف على تصنيع الصواريخ، وبناء شبكة أنفاق القتال، وتطوير تكتيكات الاقتحام. أنشأ وحدات خاصة للمواجهة الميدانية، وحرص على إكساب القسام طابعًا مؤسساتيًا عسكريًا رفيع المستوى.
وقد عُرف الضيف بأنه كان شديد الزهد، يكتفي بالقليل، يعيش حياة بسيطة مع أسرته، ويوصي أبناءه بالقرآن والعلم. قال في آخر كلماته المسموعة: “من كان عنده بندقية فليخرجها، فقد آن أوانها”.
الضيف على لائحة المحكمة الجنائية الدولية
في مايو 2024، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة توقيف بحق محمد الضيف، إلى جانب قيادات في “حماس” ومسؤولين إسرائيليين، متهمًا إياهم بارتكاب “جرائم حرب”. وأثارت هذه الخطوة جدلًا واسعًا، حيث اعتبرها الفلسطينيون مساواة بين الجلاد والضحية، بينما رأى كثيرون أن إدراج الضيف في القائمة يمثل اعترافًا بدوره المفصلي في ميزان الصراع.
من “العائدون” إلى الأبدية
هكذا تحول فتى المسرح الذي شغف بالتمثيل والإبداع إلى مقاتل استثنائي، لا تُرى ملامحه إلا في القلوب. محمد الضيف لم يكن رجلًا عاديًا، بل حكاية تتناقلها الأجيال. وبعد استشهاده، لم يُطوَ اسمه في سجل من رحلوا، بل بات رمزا خالدًا، كتبه الفلسطينيون بدمائهم على جدران الزمن: من خشبة المسرح إلى صدارة قوائم المطلوبين، ثم إلى ذاكرة وطن لا تنسى.