منذ سنوات تعرفت على دكتور وداعية من طراز فريد، أسلم على يديه المئات، وتاب على يديه خلق كثير من العصاة.
دعاني مرة إلى بيته، فعرض عليّ أن أشاركه في تجربة دعوية تتطلب التفرغ التام لمدة ثلاثة أيام، ترددت، فسألني عن سبب هذا التردد، قلت: بصراحة أنا أحبكم، ولكني عاهدت ربي أن لا أسكت على أي معلومة شرعية خاطئة، ولا أقصد هنا التقصير، ولا الذنوب، فكلنا مقصرون ومذنبون، ولكني أقصد المفاهيم والمعلومات، ففاجأني بقوله: بئس الدعاة نحن إذا رفضنا العلم، وتكبرنا على النصح والتصحيح.
بعد ثلاثة أيام من العمل المتواصل، رأيت الصدق والتجرد وقوة التأثير وقد استفدت منهم كثيرا والحمد لله، ومع هذا فقد سجلت بعض الملحوظات المنهجية والعلمية الدقيقة، وهذه مشكلتي مع كثير من الدعاة، فقيامهم بهذا الواجب العظيم لا يعفي العالم من واجب البيان والتصحيح خاصة إذا كان الخطأ قد انتشر بين عامة الناس، فنصيحة السر هنا لا تنفع، ومن ثم كان العلماء يناقشون الأفكار والاجتهادات والفتاوى المنشورة بالنشر المقابل، وتصنيفات العلماء في هذا أكبر من أن تحصى، ويكفي هنا أن نستحضر استدراكات أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني على شيخهما الإمام الأعظم أبي حنيفة -عليهم جميعا رحمة الله- والأحناف أنفسهم -فضلا عن غيرهم- يتناقلون هذه الاستدراكات والمناقشات دون تردد ولا تحرج.
الرجل جمعني بإخوانه في آخر ساعة، وقال: تفضل شيخنا نريد منك بأمانة وبدون مجاملة أن تقول لنا ما ملاحظاتك على هذه التجربة. كان صادقا وجادا في سؤاله، فاستعنت بالله تعالى وأخذت أشرح ملحوظاتي مع شيء من الحياء الذي كاد أن يعقد لساني.
هنا التفت الرجل إلى إخوانه قائلا: هذه يا إخواني فوائد صحبة العلماء، لولا وجودهم معنا لما تنبهنا إلى هذه الأخطاء، فأخذ مني الحياء كل مأخذ، لكن الرجل لم يكتف بهذا بل التفت إليّ قائلا: لقد أقمت الحجة على نفسك يا شيخ محمد، فلولا أنك عشت معنا وسمعت منا لما وقفت على أخطائنا.
لقد علمني هذا الرجل أن الدعوة والتكبر لا يجتمعان، وأن الذي يبتغي وجه الله تعالى بدعوته لا يتحرج ممن يقول له: إنكم أصبتم في كذا، وأخطأتم في كذا، وأن هناك فرقا بين دعاة المكاتب وبين دعاة الميادين المفتوحة التي تكسبهم خبرة التعامل مع الناس وتشخيص مشكلاتهم، نعم فلقد رأيت من يسمي نفسه داعية وهو لم يتمكن ربما من دعوة شخص واحد رغم كل الألقاب التي يحملها، بينما ترى مثل هؤلاء الأتقياء الأخفياء يؤثرون في الناس غاية التأثير دون أوسمة ولا نياشين.
وبورك بكل عامل للإسلام
والله يغفر لنا تقصيرنا وخطأنا