عندما يقرأ خواتيم سورة النازعات بدءًا من قوله تعالى: {أأنتم أشد خلقًا}، لا يسعُك إلا أن تقف خاشعًا مشدوهًا. كان القارئ الشيخ محمود علي البنا –الذي حلت ذكراه الأربعون اليوم- عندما يعتلي دكة التلاوة، ويبدأ في تجويد مُحكم التنزيل، يُحلق في حالة روحانية استثنائية.
لم يكن القارئ الجليل يقرأ القرآن الكريم بلسان سليم وحنجرة متينة فحسب، ولكنه كان يعيش آياته بوجدان صافٍ وقلب خاشع. كان «البنا» -ولا تزال عيون تلاواته شاهدة- يحلق بجمهوره ومستمعيه إلى عليين؛ بما أتاه الله من جمال الصوت وصدق الأداء وروعته وقبول رباني غير محدود.
في حضرة «البنا» لا يُجزي وصف ولا يُغني مدح؛ فلا قرينَ له في استهلال ولا قرار ولا جواب ولا جواب الجواب ولا تمهيد للختام ولا ختام. ولا يُجاريه غيره أخذًا بالألباب ولا شحذًا للوجدان، ما عليك إلا أن تستمع لتستمتع، وتُصغي لتُسحَر، وتتأمل لتعيَ وتفهم.
يقرأ «البنا» -الذي بدأ حياته مصارعًا- من قوله تعالى: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين..»، فتصيبك الحيرة، وتستوطنك الدهشة، وتكاد تردد من فرط تأثرك: «سبحان الله ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملك كريم».
في كل مرة.. يخترق صوت «البنا» جوانحك مجودًا أو مرتلاً آي الذكر الحكيم.. يُشعرك أنه في مهمة مقدسة يؤديها بصدق وصفاء وإخلاص بلا حدود.
أما عندما يصحبك في استعراض قصص الأنبياء في سورة «الأنبياء»، وما تعرضوا له من ابتلاءات، وما تلاها من تفريج كروبهم، فإنك تشعر كأنك ترى تلك المشاهد المتباينة رأيَ العين.
وعندما يُبحر بك في تلاوة سورة «هود»، آية بعد آية، ومشهد وراء مشهد، يجتاحك الخوف والورع، وكأنك تعيش حديث الرسول الكريم: «شيبتني هودٌ وأخواتها».
أسر «البنا» -المولود بإحدى قرى المنوفية العام 1926- قلوب وأسماع الجمهور بـ«كوكتيل مهارات وربانية»، فأصحاب الأصوات الجميلة كثر، وأصحاب الأداء الرصين كثر، ولكن «البنا» واحد فقط؛ بدليل أن الذين حاولوا تقليده أو محاكاته توقفوا عند الشكل فقط، دون التوغل في التجليات الربانية التي يصطفي الله بها عباده.
من بين عشرات القراء الذين أسهموا في بناء دولة التلاوة المصرية.. يقف صاحب أداء السهل الممتنع بصفاء روحه ونقاء نفسه وموهبته الفطرية التي أصقلها علمًا ودراسة في مكانة استثنائية، صنعها لنفسه، ولا ينافسه فيه أحد.
شق صوت «البنا» طريقه إلى آذان وقلوب الناس، فيما كان صاحبه دون العشرين عامًا. وعندما قدم من مسقط رأسه إلى القاهرة التقطته أذن واعية، ومهدت له الطريق للالتحاق بالإذاعة المصرية.
يعُتبر «البنا» من أصغر القراء التحاقًا بالإذاعة، ربما يسبقه في هذا الميدان قارئان آخران بفارق شهور قليلة.
تميز «البنا» عن كثير من القراء، بأن تلاواته في أستوديوهات الإذاعة لا تقل إبداعًا عن تلاواته بالمحافل الخارجية، وهو ما يؤكد ما ذكرناه آنفًا بأن الرجل عندما يبدأ في التلاوة ينفصل تمامًا عن الواقع ويعرج بالقرآن، أو يعرج به إلى القرآن إلى مستويات روحانية وتجليات عظيمة.
خلود صوت «البنا» لم يقتصر على تلاواته المجودة داخل مصر وخارجها، حيث قرأ الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى والمسجد الأموي وغيرها من بيوت الله العامرة في أرضه، ولكنه كان من الخمسة الكبار الذين سجلوا المصحف المرتل، ولا يزال يذاع بانتظام عبر أثر إذاعة القرآن الكريم، تناوبًا مع القراء الأكابر: محمود خليل الحصري ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي رحمهم الله وأعلى أقدارهم.
وعندما يبدع في تلاوة قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، يشعرك أن كل شيء قد انتهي، وأن أمر الدنيا أصبح ماضيًا، وليس عليك إلا أن تستعد ليوم الحساب.
ظل «البنا» مخلصًا في رسالته المقدسة بتلاوة القرآن الكريم، محتفظًا بأخلاق نبيلة، وقيم رشيدة، ومحبة فياضة تجلت في حرص كبار قراء القرآن الكريم على إحياء عزائه، بعد رحلة قصيرة مع المرض الخبيث الذي أنهى حياته قبيل إتمام الستين عامًا.
مما ذكره فضيلة شيخ عموم المقارئ المصرية الأسبق عبد الحكيم عبد اللطيف رحمه الله تعالى عن صاحب الذكرى أنه كان يتجسد أخلاق أهل القرآن الكريم في كل شيء.