4ـ الضعف وعدم تحمل آلام السجن:
ومنهم من كان سبب تركه للإخوان تنظيما لا دعوة، بسبب ما لاقاه من التعذيب في السجن، أو من رأى أن وجوده في السجن ليس لصالح الدعوة، وماذا عليه لو أنه أرسل برسالة استعطاف لجمال عبد الناصر، أو رسالة تأييد له في الحكم، وهو ما اشترطته الثورة آنذاك لمن أراد الخروج من السجن، ومن هؤلاء: عدد غير قليل من الأزهريين، وهو ما ترك صورة – لا زالت إلى الآن عند هذا الجيل من قدامى الإخوان – سيئة عن الأزهريين عند بعض الإخوان، وقد كانت الثورة أعلنت أن من يرسل رسالة تأييد لعبد الناصر يفرج عنه، فقررت جماعة الإخوان أن من يرسل رسالة تأييد يعتبر مفصولا من الإخوان، أو مستقيلا منها، وقد كان من هؤلاء الذين أرسلوا رسالة لعبد الناصر: الشيخ صلاح أبو إسماعيل، ولم ينضم أبو إسماعيل لجماعة الإخوان المسلمين في عهد حسن البنا، رغم أنه سمعه كثيرا، وأعجب به، ولكنه انضم عندما سمع كلمة من عبد القادر عودة وهو يخطب في جمع من الإخوان المسلمين، فسمعه يقول: مصر دولة نيابية، فلو استطعنا أن ندخل إلى المجلس النيابي بكثرة، لوصلنا إلى تغيير ما نريد حسب خطتنا الإسلامية، فاقتنع صلاح أبو إسماعيل في هذا اليوم بأن ينضم إلى جماعة الإخوان المسلمين تنظيما، وكان ذلك في أوائل الخمسينيات، ونشط الشاب صلاح أبو إسماعيل، الذي عمل في قسم الطلاب بالجماعة، وتحديدا في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وكانت له جهود في الجهاد في القناة ضد الإنجليز، وقام ببعض الأعمال الفنية، وكان عضوا في مسرح الإخوان المسلمين، بل كان فتى الفرقة الأول، نظرا لما يتسم به من فصاحة في اللسان، ووسامة في الوجه، مع قامة فارعة، وقوام طويل، وقد قام بدور (هرقل) في إحدى مسرحيات الإخوان.
ثم اعتقل الشيخ صلاح أبو إسماعيل مع الإخوان في الخمسينيات، وقد فتح باب الإفراج عن المعتقلين من الإخوان المسلمين لمن يرسل رسالة تأييد للرئيس جمال عبد الناصر، فأرسل رسالة من داخل المعتقل، كتب في مقدمتها: من المعتقل صلاح أبو إسماعيل إلى السيد الرئيس جمال عبد الناصر.
ومع خروج الداعية صلاح أبو إسماعيل من المعتقل فور إرساله الرسالة، تسلم عمله في الأزهر، ثم برز دوره الدعوي، وتمرس في العمل السياسي النيابي، فدخل مجلس الشعب، وكان من أوائل الإسلاميين الذين مارسوا العمل السياسي، ولما خرج الإخوان من السجون، وبدأوا يدخلون الانتخابات، بدأ شباب الإخوان يتساءلون: ما موقع صلاح أبو إسماعيل التنظيمي؟ وهل هو من الإخوان أم لا؟ فقطع الشيخ أبو إسماعيل بلباقته المعروفة الطريق على كل من يساوم بهذا الأمر قائلا: لو أخرجني الإخوان من الباب لدخلت إليهم من الشباك، ولو قطع وريدي وسال دمي لكتب: الله أكبر، والله الحمد. بل استفادت جماعة الإخوان بجهد صلاح أبو إسماعيل السياسي، مما جعل شابا من شبابها ينجح معه على نفس قائمته، وهو الدكتور عصام العريان، ليصبح بذلك أصغر عضو في مجلس الشعب وقتها.
5ـ الخلاف في إدارة الجماعة:
وهناك سبب ينشأ عن الخلاف في كيفية إدارة الجماعة، وتحديدا: كيفية إدارة الصراع مع عبد الناصر والثورة، ومن هؤلاء المشايخ: عبد المعز عبد الستار، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، أما الأول: فقد ترك التنظيم، بعد ما رأى أن طريقة إدارة الجماعة لا تروق له، ويخالف قرار مكتب الإرشاد، ويتجاوزه بعض الأفراد ويضرب قراراته عرض الحائط، وقد سألت الشيخ عبد المعز عن استقالته من الإخوان، فقال: أنا لم أستقل من الإخوان ولم أفصل، أنا تركتهم، لفساد مكتب الإرشاد، لقد بايعنا جميعا حسن الهضيبي مرشدا، ولم يجتمع بنا طوال توليه إلا مرات قليلة، كما كانوا يتقابلون مع قلة من المسؤولين مع عبد الناصر، ويتفاوضون معه، دون الرجوع إلينا، أو إعلامنا بما دار، أي أننا – أعضاء مكتب الإرشاد – كنا مجموعة من (الجرادل)، أي أن أولى مبادئ الشورى لم تكن تطبق، فرأيت فسادا في الفكر عن الشورى، وفسادا في إدارة الجماعة فتركتهم، وكان لي رأي في الصدام مع الثورة، أنه على الجماعة تجنب هذا الصدام. وأما الآخران: الغزالي وسابق، فقد احتلا المركز العام للإخوان المسلمين، وقادا ثورة على مرشد الجماعة (حسن الهضيبي) لملعومات مشوشة وصلتهم عنه، وفُصلا على إثر ذلك من الجماعة.
وبعد فصل الغزالي من الإخوان، لم يتنكر الرجل للجماعة التي نشأ فيها – ونفس الكلام يقال عن السيد سابق – أو ينقلب عدوا مبغضا لها ولأفرادها، رغم ما كتبه الغزالي في نقد الهضيبي مرشد الإخوان في كتابه (من معالم الحق) وبخاصة في طبعاته الأولى، يقول الغزالي عن موقفه من الإخوان بعد فصله، وقد ألقوا في غياهب المعتقلات والسجون، وقد تبوأ مكانا ومكانة في وزارة الأوقاف: (وقد أحصى مكتب الاستعلامات في الوزارة من يطلبون الدخول إليها، فوجد ثلاثة أرباعهم يذكرون اسمي، ولما كُلِّمتُ في ذلك قلت: معنى موظف عام أنه خادم للجماهير حقيقة لا دعوى… وبديهي أن يكون الإخوان المسلمون – فرادى – أول من يسعهم هذا النشاط، طالما هَشَشتُ للقائهم، وطمأنت قَلَقهم، وأريته من نفسي الاستعداد التام لعونه!).
ولما جاءت أحداث اعتقالات 1965م، وكانت حملة الاعتقالات أشد من الحملات السابقة، يقول الغزالي: (طُلبت إلى الإذاعة، فلما ذهبت وجدت عدداً من الشيوخ والإخوان الأقدمين. وكانت التعليمات محددة: إن الرئيس أمر بنشر مساوئ الإرهابيين، وتحذير الأمة من الثقة بهم أو التعاون معهم، ويجب أن تقوم بهذا الواجب الوطني على عجل! تَمَلْمَلتُ فوق كرسيَّ ضائقاً، ولاحظ ذلك المشرفون على البرنامج فتجاهلوني، ثم كلفوني – بوصفي مفصولاً من الإخوان – أن أبدأ التسجيل! كان جوابي حاسماً: أنا على استعداد للحديث عن الإسلام، وضرورة إحياء ما مات من أحكامه، ومستعد لإرشاد المخطئين، حكاماً كانوا أو محكومين، لإصلاح ما يكون قد بدر منهم من خطأ، أمّا شتم الإخوان وحدهم، فليس من خلقي أن أجهز على جريح!
قيل: إنهم فصلوك من جماعتهم، فلماذا تُبقي عليهم؟ قلتُ: إذا استضعفوني أيام قوتهم، فلن أستضعفهم أيام حريتي! وما هي إلا ساعات حتى كانت القيود في يدي!)، ونفس المواقف للسيد سابق، فقد كان معه في الأوقاف، ولم يقل دور عبد المعز عبد الستار عن زميليه، وخاصة عندما خرج إلى السعودية، ثم إلى قطر، فقد كانت له مواقف كثيرة في الوقوف بجانب الإخوان المطاردين خارج مصر.
6ـ الخدمة العامة للإسلام:
وهناك فئة ممن تركوا الإخوان تنظيما وليس فكرا، رأوا أنهم وصلوا إلى مرحلة يجب فيها أن يكونوا رموزا للأمة، وأن يكونوا ملكا لها وحدها، وألا يحصرهم إطار تنظيمي واحد، فهم للأمة أكثر منهم للتنظيم، ومن هؤلاء: الدكتور يوسف القرضاوي، فقد ظل عضوا منظما في جماعة الإخوان المسلمين، منذ بداية الأربعينيات من القرن العشرين، إلى ما يقرب من نهاية الثمانينيات، تحديدا في عام 1988م، فقد طلب من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين إعفاءه من العضوية التنظيمية في الجماعة، نظرا لأنه أصبح يمثل الأمة كرمز أكثر منه ممثلا لجماعة الإخوان المسلمين، وأن نفعه بهذه الصفة للإسلام سيكون أكثر وأثمر بلا شك، وقد تفهم الإخوان طلبه، وسرعان ما أجابوه إليه، كما يقول القرضاوي.
هذا عرض مجمل لأهم الأسباب التي أدت إلى خروج بعض الإخوان ممن اختلفوا في الفكر، أو طريقة العمل مع الجماعة. ويلاحظ في كل من خرجوا عن تنظيم الإخوان في الحالات التي ذكرتها: أنهم لم يتنكروا لماضيهم، ولم يتقاعسوا عن العمل للإسلام، بل عندما خرجت جماعة الإخوان المسلمين من سجون عبد الناصر في بداية السبعينيات، لم يجدوا عباءة يتدثرون بها سوى هؤلاء الرموز الذين تركوا التنظيم، بل منهم من عرض نفسه للخطر ومد يد العون المادي والمساعدة لأسر الإخوان وهم في السجون، كما ذكر الغزالي في مذكراته، وغيرهم ممن لهم مواقف يضيق المقام من ذكرها، كلها تصب في خانة الشهامة، وحسن الخلق، وعدم التنكر، وحفظ الجميل.