تشهد محافظة السويداء جنوب سوريا هدوءًا حذرًا بعد أسبوع دامٍ من الاشتباكات المسلحة بين جماعات درزية وعشائر بدوية، أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص ونزوح ما يزيد عن 128 ألفًا من سكان القرى المتضررة.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة السورية المؤقتة عن تثبيت هدنة بوساطة دولية، إلا أن التوتر لا يزال مخيمًا على المناطق التي شهدت المواجهات، وسط مخاوف متزايدة من تجدّد القتال في أي لحظة.
التهجير بدلاً من المصالحة
الهدنة جاءت بعد وساطة أمريكية وخليجية، وتضمنت إجلاء منظم لمئات العائلات البدوية من بعض مناطق السويداء إلى مناطق أكثر أمنًا، في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي بين الطرفين. لكن تلك الخطوة أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط المدنية والحقوقية، التي رأت فيها “حلًا مؤقتًا” قد يكرس التهجير بدلاً من المصالحة.
وفي تطور مفاجئ، نفّذت إسرائيل غارات جوية استهدفت مواقع تابعة لقوات النظام السوري في محيط السويداء وريف دمشق، مبررة ذلك بأنه تدخل وقائي لحماية الطائفة الدرزية، في ظل تقارير عن نية بعض الجماعات المسلحة تنفيذ “عمليات تطهير”.
هذا التدخل العسكري قوبل برفض أمريكي رسمي، إذ اعتبرت واشنطن أن توقيت الضربات يزيد التوتر ويعقّد مسار الوساطة القائمة، كما يعرض المدنيين لخطر أكبر في وقت بالغ الحساسية.
عدد من الخبراء الدوليين في الشأن السوري رأوا أن التدخل الإسرائيلي يندرج في إطار الصراع الإقليمي على النفوذ، ومحاولة تأمين الجبهة الشمالية لإسرائيل.
إلا أن نتائجه قد تكون عكسية إذا أدّت إلى انهيار وقف إطلاق النار الهش. واعتبر محللون أن هذه الغارات تعكس هشاشة التفاهمات غير المعلنة بين اللاعبين الإقليميين في الملف السوري، وغياب أي ضمانات لحماية المدنيين في مناطق النزاع.
اعدامات ميدانية واحتجازات قسرية،
في موازاة ذلك، أطلقت منظمات حقوقية دولية تحذيرات من وقوع انتهاكات جسيمة خلال الأيام الماضية، من بينها إعدامات ميدانية، واحتجازات قسرية،
واستهداف مباشر للمدنيين في قرى البدو والدروز على حد سواء. وطالبت المفوضية السامية لحقوق الإنسان بفتح تحقيق عاجل في تلك الانتهاكات، ومحاسبة المتورطين بغض النظر عن انتماءاتهم.
الحكومة السورية المؤقتة، من جانبها، أعلنت التزامها الكامل بحماية جميع المواطنين دون تمييز، وبدأت بنشر وحدات أمنية في محيط المناطق التي شهدت اشتباكات،
إضافة إلى تسهيل عملية تبادل الأسرى بين الطرفين. كما أكدت أنها تعمل على إعادة الخدمات الأساسية تدريجيًا للمناطق المتضررة، في ظل أوضاع إنسانية صعبة تفاقمت بسبب النزوح وانقطاع المساعدات.
لكن رغم التصريحات الرسمية، تواجه الحكومة ضغوطًا شعبية متزايدة، سواء من داخل السويداء أو من الجهات الدولية، لبدء حوار محلي جاد بين مكونات المجتمع، ووضع ضمانات لعودة العائلات المهجرة إلى ديارها بأمان.
ويرى مراقبون أن استمرار الخطاب الطائفي من بعض الأطراف، وتغاضي الحكومة عن محاسبة المتسببين في إشعال الفتنة، قد يهدد بتفجر الوضع مجددًا في حال لم يُعالج الملف بحكمة وعدالة.
في الوقت ذاته، تعيش المناطق المتضررة من الاشتباكات وضعًا إنسانيًا كارثيًا، مع تدهور في الإمدادات الغذائية والطبية، وافتقار المخيمات الجديدة لأبسط مقومات الحياة. وأشارت تقارير أممية إلى أن أعداد النازحين الجدد فاقمت من أزمة النزوح الداخلي في البلاد، حيث يعاني أكثر من 13 مليون سوري أصلًا من انعدام الأمن الغذائي، فيما تبقى المساعدات الدولية محدودة وعرضة للتعطيل بسبب الأوضاع الأمنية.
هشاشة المرحلة الانتقالية
أما على المستوى السياسي، فإن أحداث السويداء كشفت هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا، وخطورة ترك الأقاليم المحلية بلا حلول متكاملة. ويرى محللون أن تجربة السويداء قد تكون نموذجًا مصغرًا لما يمكن أن يحدث في مناطق أخرى إذا لم تُبذل جهود حقيقية للمصالحة وضمان العدالة الانتقالية.
وقد حذر بعض الخبراء من أن الدعم الدولي للحكومة المؤقتة يجب أن يُربط بشروط واضحة تتعلق بالمحاسبة والشفافية، حتى لا تُكرر أخطاء المراحل السابقة.
في المجمل، تقف سوريا اليوم أمام لحظة فارقة. فالهدنة في السويداء تمثل فرصة نادرة لكسر دوامة العنف وإرساء أسس سلم داخلي، لكن تحقيق ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وضغطًا دوليًا لإجبار الأطراف على الانخراط في تسوية شاملة، تتجاوز الحسابات الطائفية وتعيد الاعتبار للحقوق والعدالة. أما تجاهل جذور الأزمة، فقد يعني ببساطة تأجيل الانفجار القادم، لا منعه.
الحكومة السورية المؤقتة
صرح الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في بيان رسمي بأن الحكومة “تُرحّب بتثبيت وقف إطلاق النار في السويداء”، مؤكدًا أن السلطات “لن تسمح بعودة العنف الطائفي أو التهجير القسري مهما كانت الضغوط”.
وأضاف أن “الدولة مسؤولة عن حماية جميع مواطنيها، سواء من أبناء الطائفة الدرزية أو العشائر البدوية”، مشددًا على أن “ما حدث كان نتيجة تراكمات إهمال وخطابات تحريضية سيتم معالجتها بالحوار والمحاسبة القانونية”.
كما أكد المتحدث باسم الحكومة أن قوات الأمن نُشرت في المناطق المتوترة، وتم الاتفاق على آليات لتبادل الأسرى وضمان العودة الآمنة للنازحين.
الولايات المتحدة الأمريكية
في أول تعليق رسمي، اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية أن الضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي السورية “غير مرحب بها في هذا التوقيت”، وقالت المتحدثة باسم الوزارة:
“ندعو جميع الأطراف إلى ضبط النفس والتركيز على دعم جهود التهدئة بقيادة الحكومة المؤقتة وشركائها الإقليميين”.
وشدد البيان الأمريكي على أن واشنطن “تدعم الحكومة السورية المؤقتة باعتبارها شريكًا انتقاليًا، ولكنها تُشدد على أن أي استخدام للقوة يجب أن يتم ضمن إطار الشرعية الدولية”.
الأمم المتحدة
أعلن المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أن ما جرى في السويداء “يثير قلقًا بالغًا”، داعيًا إلى “تحقيق مستقل في مزاعم القتل خارج القانون، والاعتداء على المدنيين، وتدمير الممتلكات بدافع طائفي”.
وأكد في بيانه أن “وقف إطلاق النار لا يُعفي أي طرف من مسؤولياته تجاه القانون الدولي الإنساني”، محذرًا من “أن الإفلات من العقاب سيشجع على مزيد من الانتهاكات مستقبلاً”.
الاتحاد الأوروبي
قالت الممثلة العليا للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إن الاتحاد “يرحب بأي جهود تهدف إلى تخفيف التوترات في الجنوب السوري، لكنه يرفض بشكل قاطع أي عمليات تهجير أو تسويات تُفرض بالقوة”.
وأكد البيان الأوروبي أن “الدعم الأوروبي للحكومة المؤقتة سيظل مشروطًا بإجراء إصلاحات داخلية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات”.
الكيان الصهيوني
في تصريحات نادرة، أكد مسؤولون أمنيون إسرائيليون أن الضربات التي نفذها سلاح الجو في سوريا كانت “استجابة مباشرة لمعلومات استخباراتية عن هجمات وشيكة تستهدف تجمعات درزية جنوب البلاد”.
وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن “إسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين إذا تعرّض أبناء الطائفة الدرزية، داخل أو خارج حدودها، لخطر الإبادة”، مشيرًا إلى أن العمليات الأخيرة “جاءت بتنسيق جزئي مع حلفاء غربيين”.
الموقف الروسي
لم يصدر حتى صباح الإثنين أي موقف واضح من موسكو بشأن التطورات في السويداء، لكن بعض وسائل الإعلام الروسية وصفت الغارات الإسرائيلية بأنها “عدوان يستهدف استقرار سوريا”، وانتقدت “تقاعس المجتمع الدولي عن لجم انتهاكات السيادة السورية”.
المعارضة السياسية السورية في الخارج
من جهتها، دعت شخصيات بارزة في المعارضة السورية المقيمة في تركيا وفرنسا إلى “تشكيل لجنة تحقيق دولية تحت إشراف الأمم المتحدة” حول أحداث السويداء، ورفضت “أي تدخل إسرائيلي أو تهجير قسري”، مؤكدة أن “سوريا لا تُبنى على الطوائف بل على دولة مدنية.