هل هذه مجّرد سُنَّة إلهية في الناس كقوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد)؟
أم أنّ الآية فيها إخبار بأن اليهود سيُحاولون الإفساد في الأرض المباركة فلسطين من جديد؟
إنَّ الخطاب في الآية موجَّهٌ إلى بني إسرائيل في سياق الحديث عن زوال إفسادهم الأخير (وعد الآخرة)،
وأنه سيكون على ثلاث مراحل:
1- إساءة الوجوه (ليسوءوا وجوهكم) وقد حدث ولايزال يحدث.
2- دخول بيت المقدس (وليدخلوا المسجد).
3- تتبير مظاهر الإفساد الأخير (وليتبروا ما علوا تتبيرا).
وأنَّه بعد زوال هذا الإفساد الأخير سيرحمهم الله تعالى بإبقائهم أحياءً دون قتل أو إبادة، لعلهم يتوبون، أو يرجعون عن معاصيهم.
لكنه تعالى ينذرهم ويحذرهم من العودة إلى الإفساد من جديد، وأنه بمجرد عودتهم إلى الإفساد سينتقم الله منهم وسيهلكهم، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى:
(وإن عدتم عدنا)، فليس يُوجد فاصل بين (عدتم) و (عدنا)، فالعقوبة حاضرة وفورية، والإهلاك سريع ونهائي.
فهل سيعود اليهود للإفساد من جديد بعد زوال ملكهم ودولتهم في (وعد الآخرة)، وبعد رحمة الله لهم بعدم إبادتهم وإفنائهم؟
في الآية الكريمة إيحاء بعودة اليهود للإفساد من جديد، لكنهم لن يُسمح لهم به، ولن يتمكنوا من الاستقرار أو الإقامة في فلسطين مرَّةً أخرى، ولن يكون لهم دولة أو مُلك بعد الإفسادين الأول والأخير، فقد قضى الله في أمرهم، فقال: (لتفسدن في الأرض مرتين)، فهما إفسادان لا ثالث لهما:
(وعد أولاهما) و(وعد الآخرة).
وممَّا يؤكِّد عودة اليهود إلى فلسطين في محاولةٍ للإفساد من جديد، هو زحفهم مع المسيح الدجَّال مستقبلاً، حيثُ سيكون أكثر أتباعه من اليهود، كما في الأحاديث الصحيحة.
وفي ظنِّي أنَّ الدجَّال، ومن معه من اليهود والكفار، إنَّما يكون هدف زحفهم نحو فلسطين هو محاربة الدولة الإسلامية التي تتخذ من بيت المقدس عاصمةً لها (دولة الخلافة)، وبناء دولة لليهود في فلسطين من جديد، وهو ما تشير إليه الآية: (وإن عدتم عدنا).
ويمكنني أنْ أقف عند معنيين ظاهرين في قوله تعالى:
(وإن عدتم عدنا):
المعنى الأول:
إنْ عُدتم إلى المعصية، عُدنا إلى العقوبة.
المعنى الثاني:
إنْ عُدتم إلى الإفساد في فلسطين، عُدنا إلى تسليط عباد لنا أولي بأس شديد عليكم.
عودةُ اليَهودِ مَعَ الدَّجَّال:
▪ سيعود اليهود للإفساد من جديد، وسيحاولون السيطرة على فلسطين، وبناء دولةٍ لهم فيها من جديد، لكنّ عودتهم هذه المرة ستكون مع المسيح الدجَّال، والذي ستكون
نهايته على يد سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام عند باب ( لُدّ) في فلسطين، وستكون نهايتهم هي القتلَ والإبادةَ بإذن الله تعالى، كما تُبَيِّن لنا الأحاديث الصحيحة التالية، ومنها هذان الحديثان:
1- (عن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: يتبع الدجّال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة).
2- وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجَّال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفًا من اليهود عليهم التِّيجان).
خوارق الدجَّال، وخوارق المؤمنين:
إنّ الدجّال كما هو معلوم سيكون معه خوارقُ كثيرة، وتصرفاتٌ خارجةٌ عن مألوفات الناس، ولكنَّ الله تعالى لا يترك عباده المؤمنين في فلسطين، ليشعروا بالعجز في مواجهة هذه الخوارق، بل يهيئ لهؤلاء المؤمنين في فلسطين خوارقَ مختلفةً تُقوِّيهم وتنصرهم، ومن هذه الخوارق:
أولًا: نُطق الجمادات (الحجر والشجر وغيرهما):
فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ الحجر والشجر وغيرهما ممَّا يختبئ اليهود خلفه سينطق وقوفًا مع المسلمين، ومؤازرةً لهم، ومنها هذان الحديثان:
١- روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود من وراء الشجر والحجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر اليهود)
٢- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… وينطلق هاربًا، فيُدركه عند باب لُدٍّ الشرقيّ، فيقتُله، فيَهْزِمُ الله اليهود، فلا يبقى شيءٌ ممَّا خلق الله عزَّ وجلَّ يتواقى به يهوديٌّ، إلا أنطق الله ذلك الشيء، ولا حجر ولا شجر، ولا حائط، ولا دابة، إلا الغرقد، فإنَّها من شجرهم لا تنطق، إلا قال: يا عبدَ الله المسلم، هذا يهوديٌّ فتعالَ اقتُلْهُ)
ثانيًا: نزول عيسى عليه السلام وقتلُه الدجَّال:
إنَّ المسيح عيسى بن مريم عليه السلام هو الذي يقتُل المسيح الدجَّال عند باب (لُدٍ)، والُّلد مدينة فلسطينية معروفة، تقع إلى الشمال الغربي من القدس في أواسط فلسطين، ومن أدلَّة ذلك هذان الحديثان:
1- فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته ما يحدثنا عن الدجَّال إلى أنْ قال:
(فيقول عيسى عليه السلام: إنَّ لي فيك ضربةً لن تفوتني بها، فيُدرِكَه عند باب لُدٍّ الشرقي، فيقتُلُه، فلا يبقى شيءٌ مما خلق الله عزّ وجلّ يتوارى به يهوديٌّ، إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا شجرة، ولا حجر، ولا دابة، إلا قال: يا عبد الله المسلم، هنا يهوديٌّ فاقتُلْهُ، إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق…).
2- وعن مجمع بن جارية رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقتُلُ ابنُ مريم الدجَّال ببابِ لُدٍّ)
فالدجَّال إذنْ سيدخل هو ومن معه من اليهود إلى فلسطين، وسيكون نُطق الشجر والحجر في زمن القتال مع الدجَّال، وليس قبله، وهذا ما جاء صريحًا كما في هذين الحديثين الصحيحين:
١- فعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال:
(يخرج الدجال في نقصٍ من الناس، وخفَّةٍ في الدِّين، وسُوءِ ذات بَيْنٍ، فيَرِد كلَّ مَنْهل، فتُطوى له الأرض طيَّ فروة الكبش، حتى يأتي المدينة، فيغلب على خارجِها، ويُمنع داخلُها، ثم جبل إيلياء، فيُحاصِر عصابةً من المسلمين، فيقول لهم الذين عليهم: ما تنظرون بهذا الطاغية أن تقاتلوه حتى تلحقوا بالله، أو يُفْتَحُ لكم؟ فيأتمرون أنْ يقاتلوه إذا أصبحوا، فيصبحون ومعهم عيسى بن مريم، فيقتُل الدجاَّل ويُهزَم أصحابُه، حتى إنَّ الشجر والحجر والمَدَر، يقول: يا مؤمن، هذا يهوديٌّ عندي فاقتُلْهُ).
٢- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يُبكيك؟ قالتْ: يا رسولَ الله، ذكرتُ الدجَّالَ فبكيْتُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
(إنْ يخرجِ الدجَّالُ وأنا حيٌّ كفيتُكُمُوه، وإنْ يخرجِ الدجَّالُ بعدي، فإنَّ ربَّكم ليس بأعور، وإنَّه يخرجُ في يهوديَّة أصْبَهان حتّى يأتيَ المدينة، فينزلَ ناحيتَها، ولها يومئذٍ سبعة أبواب، على كل نَقْبٍ منها مَلَكَانِ، فيخرج إليه شرارُ أهلها، حتى يأتي فلسطين بابَ لُد، فينزل عيسى عليه السلام في الأرض أربعين سنةً إمامًا عَدْلًا وحَكَمًا مُقْسطًا).
ومما سبق أخلُص إلى النتائج التالية:
1- سيعود اليهود إلى فلسطين مع الدجال، وسيكون هو قائدهم، وسيكونون جنودًا وأتباعًا له، في محاولة للإفساد في فلسطين من جديد.
2- سينزل نبيُّ الله عيسى بن مريم عليه السلام، ويقتل الدجَّال قائد اليهود عند باب (لُد) في فلسطين، ممَّا يؤكِّد عودة اليهود إلى فلسطين مرة أخرى، بهدف الإفساد، وبناء المُلْك من جديد.
3- مقتَلُ الدجَّال عند باب (لُد)، ونُطْق الحجر والشجر في فلسطين لقتل اليهود يؤكد أنَّ اليهود لنْ ينجحوا في إفسادهم مرَّة أخرى.
4- (وإن عدتم عدنا) فيها إشارة إلى سرعة انتقام الله تعالى من اليهود وقائدهم الدجال، وإبادتهم عن آخرهم، إلا من استتر بالغرقد، فقد ينجو بعضهم من الإطاحة برؤوسهم.
5- فلسطين المباركة كانت دائمًا -وستظل- قاهرةً للظلم والظالمين على مرّ العصور، وحتى يوم القيامة.
6- خطأ الوعَّاظ والخطباء الذين يخلطون بين زوال دولة (إسرائيل) في وعد الآخرة الحالي، وبين عودتهم مع الدجَّال، فإنَّ الشجر والحجر سينطقان فقط في زمن الدجَّال، وبعد نزول عيسى عليه السلام.