لعب اليهود دورًا كبيرًا في تشكيل ملامح الاقتصاد المصري الحديث خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ومن خلال متاجر كبرى كـ”شيكوريل” و”ريفولي” و”بنزايون” وباتا، ومن خلال الاستثمار في المصارف والعقارات، أصبح لليهود مكانة لا يمكن تجاهلها في قلب القاهرة والإسكندرية.
لكن خلف هذه الأدوار الاقتصادية، تكشفت ممارسات مصرفية ربوية واتصالات مع المشروع الصهيوني، مما سرّع بانتهاء وجودهم بعد عقود من النفوذ.
أولًا: الاقتصاد اليهودي في قلب مصر
كان اليهود جزءًا أساسيًا من النهضة الاقتصادية الليبرالية التي عرفتها مصر قبل ثورة 1952، حين كانت البلاد مفتوحة لرؤوس الأموال الأجنبية والمحلية:
في التجارة: امتلك اليهود متاجر راقية في وسط القاهرة، واعتمدت على استيراد السلع الأوروبية وبيعها بطراز عصري.
في الصناعة: أداروا مصانع أحذية وأقمشة وسلع استهلاكية، أبرزها “باتا”.
في العقارات: طوّروا أحياء كاملة مثل “سموحة” بالإسكندرية و”كلوت بك” في القاهرة.
ثانيًا: الجانب الربوي والتمويل المشبوه
لم يكن النشاط الاقتصادي لليهود خاليًا من الشبهات، فقد ارتبط بعضهم بالمعاملات الربوية:
أقاموا شركات تمويل وقروض بفوائد مرتفعة، ما أثقل كاهل الفلاحين والحرفيين.
هيمنوا على بعض الأسواق عبر عقود احتكارية تفرض شروطًا قاسية.
وُثّقت ممارسات ربوية في الأحياء الشعبية دفعت كثيرًا من المصريين للشكوى في البرلمان والصحف.
ثالثًا: الدعم الخفي لدولة الصهاينة
برغم ادعاء الحياد، فقد كشفت الوثائق لاحقًا أن بعض كبار التجار اليهود:
موّلوا مؤسسات صهيونية كـ”الوكالة اليهودية” و”كيرن هايسود”.
ساعدوا في تهريب مهاجرين إلى فلسطين قبل إعلان دولة إسرائيل.
تورط بعضهم في أنشطة تجسسية مثل “خلية لافون” التي سعت إلى تخريب منشآت مصرية لاتهام جهات أجنبية.
رابعًا: شخصيات يهودية ساهمت في صناعة الاقتصاد المصري
موريس شيكوريل (شيكوريل)
من أصل إيطالي، أسس أشهر سلسلة متاجر راقية في القاهرة والإسكندرية عام 1909، حملت اسمه “شيكوريل”. كان عضوًا بارزًا في الطائفة اليهودية، ونجح في جذب النخبة المصرية إلى متاجره. احترق متجره في حريق القاهرة عام 1952، وغادرت عائلته مصر بعدها.
سليمان بنزايون (بنزايون)
من يهود العراق، أسس مع شقيقه سلسلة متاجر “بنزايون”، التي تخصصت في الأزياء والعطور الراقية. كانت لها فروع في القاهرة وطنطا. تم تأميمها بعد 1956.
فيكتور عدس (متاجر عدس)
أسس متاجر “عدس” الفاخرة في العتبة. كان تاجرًا ذكيًا، يروج للسلع الأوروبية بطريقة حديثة. بعد 1948، تعرّضت متاجره للمقاطعة الشعبية.
روفائيل سوارس (رافو سوارس – المصارف والبنية التحتية)
من كبار المصرفيين اليهود في مصر، شريك في تأسيس “بنك مصر” مع طلعت حرب. كان وراء تمويل مشروعات ضخمة كالكهرباء والسكة الحديد. هاجر إلى فرنسا بعد تصاعد التوتر السياسي.
سير يوسف سموحة (حي سموحة)
يهودي عراقي، منحته بريطانيا لقب “سير”. اشترى أراضي مستنقعات في الإسكندرية، وحوّلها إلى حي سموحة الراقي. دعّم مؤسسات يهودية في مصر وفلسطين. غادر إلى إنجلترا بعد 1956.
سالفاتور أوريكو (عمر أفندي)
يهودي إيطالي غيّر اسمه إلى “عمر أفندي” لأسباب تجارية وتسويقية، فكان الاسم “إسلاميًا شعبيًا” يُرضي الزبائن. اشترى المتجر من تاجر ألماني، وطوّره ليصبح سلسلة شعبية شهيرة. تم تأميم المتجر عام 1957.
جاك ريفولي (متجر ريفولي)
صاحب متجر “ريفولي” الشهير للملابس الرجالية في وسط القاهرة. كان متخصصًا في الأقمشة الإيطالية والفرنسية. بعد العدوان الثلاثي، غادر إلى إيطاليا.
خامسًا: من المجد إلى الرحيل
كانت نهاية الحضور اليهودي مفاجئة وسريعة:
بعد حرب 1948م، ارتفعت نبرة العداء الشعبي.
في 1952م، تعرّضت متاجرهم للحرق والنهب خلال حريق القاهرة.
في 1956م، وبعد العدوان الثلاثي، صدر قرار التأميم والمصادرة، وغادر معظم اليهود البلاد نهائيًا.
سادسًا: هل تركوا فراغًا؟
نعم، فقد تراجعت الجودة والتخصص في المتاجر بعد التأميم، وضعفت المنافسة.
الدولة حاولت سد الفراغ، لكن الفروق ظلت واضحة لعقود.
كان دور اليهود في الاقتصاد المصري مركبًا، لا يمكن اختزاله في الخير أو الشر. . فقد ساهموا في تحديث السوق، لكنهم ارتبطوا بممارسات ربوية وسياسية أثارت الشكوك.
وبين المجد والجدل، ظل أثرهم واضحًا في شوارع القاهرة، وفي ذاكرة جيل لا يزال يذكر أسماء: باتا وشيكوريل وعمر افندي وبنزايون وعدس وريفولي وسموحة، وغيرهم،” رغم غيابهم