من الأزهر إلى مدافع الفرنسيين: موسوعة الجبرتي توثّق زمن التحولات
في قلب القاهرة العثمانية، حيث تختلط صرخات الأسواق بنداء المؤذنين وقرقعة السيوف في دهاليز الحكم، ولد عبد الرحمن الجبرتي، المؤرخ الذي وضع واحدة من أعظم موسوعات التأريخ في العالم الإسلامي: “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”.
هذه الموسوعة التي جاءت في أربعة مجلدات ضخمة، لا تروي مجرد وقائع تاريخية، بل توثق لحظة انكسار الشرق أمام مدافع الحداثة الغربية، وتقدّم صورة بانورامية لمصر في أواخر العصر العثماني، مرورًا بالحملة الفرنسية، وصولًا إلى صعود محمد علي باشا.
بين السرد والتأريخ: مضمون موسوعة الجبرتي
رصد الجبرتي في موسوعته الكبرى:
سقوط دولة المماليك على يد الحملة الفرنسية (1798)
دخول نابليون القاهرة، وممارسات الاحتلال
انتفاضات الشعب المصري، وصعود محمد علي
أحوال المجتمع المصري: الأسواق، الأعياد، الأوبئة، المعتقدات الشعبية
وكتب بأسلوب يجمع بين البيان القرآني، والدقة الأكاديمية، والرؤية الناقدة. وقد حرص على ذكر الأسماء، التواريخ، أسعار السلع، ومواقف العلماء، حتى بدا عمله وكأنه “صحافة يومية” للأمة الإسلامية.
مؤرخ شاهد لا ناقل
تميّز الجبرتي عن غيره بأنه كان شاهدًا مباشرًا على أغلب ما كتب، وهو ما منح كتاباته مصداقية نادرة. لم يكن حياديًا على الطريقة الغربية، بل كان ناقدًا، ساخطًا أحيانًا، وغاضبًا حين تمسّ العقيدة والهوية.
أدان الاحتلال الفرنسي بوضوح، وانتقد افتتان بعض النخب بالتغريب، وكتب عن هدم الأزهر، واستباحة المحرمات، وتبدّل الأحوال بمرارة العالم الذي يشهد تفكك المجتمع من داخله.
من هو عبد الرحمن الجبرتي؟
ولد عام 1753 في القاهرة لأبٍ من علماء الأزهر من أصول حبشية، وتلقى علومه هناك. عمل في نظارة الوقف، ثم تفرغ للتأريخ بعد وفاة والده. كان قريبًا من دوائر العلم والحكم، وهذا ما منحه اطلاعًا واسعًا على تفاصيل الحكم العثماني والمملوكي، ثم الاحتلال الفرنسي، ثم نشوء حكم محمد علي.
تعرض للمضايقة في أواخر حياته، خاصة بعد انتقاده العلني لمحمد علي واغتيال المماليك، وتوفي عام 1825 بعد اغتيال ابنه في حادثة غامضة.
من أقواله
“دخل الفرنسيس مصر وهم على دين النصارى، فهدموا ما شاءوا، وبدّلوا ما أرادوا، فأذلّوا أهلها، وأفسدوا حالها.”
“ما رأيت في هذا الزمان أعجب من تقلّب الأحوال، ولا من سرعة زوال الدول، فيا لله من حكمه!”
“كلما أرادوا إقامة حضارة، بدؤوا بتدمير الدين، وهذا لا يكون عمرانًا، بل هو الهدم بعينه.”
أثر الموسوعة في الأدب والفكر والدراسات الحديثة
لم تبقَ موسوعة الجبرتي حبيسة رفوف المؤرخين، بل ألهمت كتّابًا ومفكرين عربًا وأجانب، وأثرت في الرواية التاريخية المصرية الحديثة. فقد استعان بها نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وصنع الله إبراهيم، في بناء مشاهد القاهرة القديمة، واللغة، وحركة المجتمع.
وفي الجامعات، تُعد الموسوعة مرجعًا أساسيًا في دراسات التاريخ الاجتماعي والسياسي، كما جرى تحليلها في ضوء نظريات الاستشراق، والحداثة، والنقد الثقافي. وينظر إليها الباحثون الغربيون بوصفها وثيقة مقاومة فكرية وثقافية، تُقابل “رواية المستعمِر” برواية من داخل الثقافة الإسلامية ذاتها.
بل إن بعض الباحثين يعدّون الجبرتي أول مؤرخ حديث في العالم الإسلامي، لأنه كتب عن التحول لا عن الحكم فقط، ووعى مبكرًا خطورة اللحظة التي تغزو فيها المعرفة الأوروبية بلاد الشرق.
لماذا نقرأ الجبرتي اليوم؟
لأننا نعيش زمنًا تتضارب فيه الروايات، ويُعاد فيه تشكيل التاريخ من جديد، وتُطمس فيه ذاكرة الشعوب، تعود موسوعة الجبرتي كمرآة ناصعة، كتبها عقل مسلم، من قلب الحدث، وبلغة أمينة على جوهر الأمة.
موسوعته لا تسرد فقط سقوط الحكم، بل تحكي انكسار الإنسان أمام آلة استعمارية تريد أن تُبدل ما في العقول قبل ما في الأنظمة.
الجبرتي لم يكتب تاريخ السلاطين… بل دوّن وجع الناس، وصرخة الأمة، وبداية التحول.
لهذا، تظل موسوعته “عجائب الآثار” ليست فقط كتاب تاريخ، بل عملًا مقاومًا، وسفرًا حضاريًا في وجه النسيان.