شهدت السنوات الأخيرة ارتباطًا واضحًا بين ارتفاع أسعار المواد الغذائية وظواهر مناخية متطرفة مثل الحرارة الشديدة، والجفاف، والأمطار الغزيرة، تجاوزت في شدّتها كلّ السوابق التاريخية قبل عام 2020.
ففي شرق آسيا، سجّلت درجات الحرارة في عام 2024 أرقامًا قياسية غير مسبوقة، لا سيما في كوريا الجنوبية واليابان، وأجزاء واسعة من الصين والهند. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الملفوف الكوري بنسبة 70% في سبتمبر مقارنة بالشهر نفسه من عام 2023، وقفز سعر الأرز الياباني بنحو 48%، بينما زادت أسعار الخضروات في الصين بنسبة 30% بين يونيو وأغسطس.
أما في الولايات المتحدة، فقد تسببت موجة جفاف استثنائية ضربت ولاية كاليفورنيا، التي تنتج أكثر من 40% من الخضروات الأميركية، في عام 2022، في رفع أسعار المنتجين بنسبة 80%. وامتدت الأزمة إلى أريزونا، ما ضاعف من التأثيرات على سلاسل الإمداد الغذائية.
وفي أوروبا، أدت موجات الجفاف الشديدة التي اجتاحت جنوب القارة خلال عامي 2022 و2023 إلى زيادة سعر زيت الزيتون الإسباني بنسبة 50% في الأسواق الأوروبية بحلول يناير 2024.
على المستوى العالمي، سجلت أسواق الكاكاو ارتفاعًا غير مسبوق تجاوز 300% في أبريل 2024، بعد أن تعرّضت مناطق الإنتاج الرئيسية في غانا وساحل العاج إلى ارتفاعات حرارية حادة وجفاف ممتد. كما ارتفعت أسعار القهوة عالميًا بفعل موجات الجفاف والحرّ في فيتنام والبرازيل خلال العام نفسه.
المخاطر الناتجة عن ارتفاع أسعار الغذاء:
الأمن الغذائي في خطر
ارتفاع الأسعار لا ينعكس بالتساوي على جميع الشرائح الاجتماعية. الأسر ذات الدخل المنخفض تجد نفسها مجبرة على إنفاق نفس المبلغ مقابل كميات أقل من الطعام، أو اللجوء إلى أطعمة رخيصة ومنخفضة القيمة الغذائية، ما يؤدي إلى الجوع وسوء التغذية. كما تضطر هذه الفئات إلى تخصيص نسبة أكبر من دخلها للطعام، على حساب التعليم أو الصحة أو السكن.
وتُظهر الأرقام أن الفئات الأفقر تتحمّل العبء الأكبر. في الولايات المتحدة، تنفق الأسر ذات الدخل المنخفض حوالي 33% من دخلها على الغذاء، مقابل 8% فقط للأسر الأعلى دخلًا. وتتفاقم الأزمة في الدول الفقيرة والأكثر عرضة لتأثيرات تغير المناخ.
تفاقم التهديدات الصحية
تؤدي التغيرات في نمط الاستهلاك الغذائي الناتجة عن ارتفاع الأسعار إلى تدهور في نوعية التغذية. ومع استبدال الأطعمة الطازجة والمغذية بخيارات أرخص وأكثر ضررًا، يرتفع خطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بسوء التغذية مثل أمراض القلب، والسكري، وبعض أنواع السرطان. الأطفال بشكل خاص يكونون الأكثر تضررًا بسبب حاجتهم إلى تغذية عالية الجودة في مراحل النمو.
وترتبط هذه الأزمات الصحية أيضًا باضطرابات نفسية، مثل القلق والاكتئاب، ما يضاعف الضغط على أنظمة الرعاية الصحية.
التضخم والانهيارات النقدية
تُعد أسعار الغذاء عنصرًا رئيسيًا في معادلة التضخم، خاصة في الدول النامية. وتُصعّب موجات الغلاء المرتبطة بالطقس مهمة البنوك المركزية في السيطرة على الأسعار. رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم قد يفاقم التباطؤ الاقتصادي الناتج أصلًا عن الأزمات المناخية، مما يضعف النمو ويزيد الضغوط على المالية العامة.
. اضطرابات سياسية محتملة
عبر التاريخ، كانت أسعار الغذاء المرتفعة شرارة لاضطرابات اجتماعية وسياسية كبرى، بدءًا من الثورة الفرنسية وصولًا إلى أزمة الغذاء عام 2008، والربيع العربي في 2011. الدراسات الحديثة تؤكد هذا الرابط، مشيرة إلى أن التضخم الغذائي يضعف الثقة بالحكومات ويغذي الغضب الشعبي.
كما تؤثر الأسعار المرتفعة في نتائج الانتخابات، حيث يُحمَّل القادة المسؤولية عن تآكل القدرة الشرائية، وهو ما حدث في الولايات المتحدة في انتخابات 2024. وفي أوروبا، صبّت أزمات التضخم في مصلحة الأحزاب الشعبوية والمتطرفة، التي استغلت تذمّر الناس من السياسات الاقتصادية القائمة.
تُظهر هذه الوقائع أن تأثيرات تغير المناخ لم تعد تقتصر على البيئة أو الطقس، بل باتت تؤثر على موائد الناس وصحتهم واستقرار دولهم. ارتفاع أسعار الغذاء ليس مسألة مؤقتة، بل هو نتيجة مباشرة لاختلال توازنات المناخ العالمي، ما يجعل الاستجابة لهذه الظواهر المناخية أكثر من ضرورة بيئية… إنها ضرورة إنسانية واقتصادية وسياسية شاملة.
