في زمنٍ كانت فيه الفلسفة تُتهم بالكفر في الغرب، كان العقل في الشرق يُستقبل بالتبجيل، وتُصاغ أعظم الأسئلة الوجودية بلغات القرآن والمنطق. هنا، في قلب الحضارة الإسلامية، نشأ جيلٌ من الفلاسفة الذين جمَعوا بين نور الوحي وضوء العقل، وكتبوا للإنسانية صفحة من أروع ما عرفت من تفكير حر.
ومن هذا الباب يدخل كتاب “تاريخ فلاسفة الإسلام” للمفكر النهضوي محمد لطفي جمعة، الذي أعاد رسم خريطة الفلسفة في الإسلام، وكتب سيرة أولئك الذين مشوا على الحبل المشدود بين النص والعقل، بين الإيمان والبرهان.
فلاسفة لا يُنسَون
ليست صفحات هذا الكتاب تأريخًا جامدًا لأسماءٍ مضت، بل هو استحضار لروحٍ فكرية صنعت مجدًا حضاريًا، وساهمت في بناء عالمٍ عربي إسلامي كانت الفلسفة فيه جزءًا من جوهر الهوية.
يقدّم محمد لطفي جمعة رؤية شاملة، تبدأ من ترجمة كتب اليونان في عصر المأمون، وتمر بعصر الكندي، والفارابي، وابن سينا، وتصل إلى ابن رشد، دون أن تُغفل أثر الغزالي ومعركة العقل والنقل.
من الشرق إلى الأندلس
في فصول الكتاب، يميّز المؤلف بين فلاسفة المشرق أمثال الكندي والفارابي وابن سينا، الذين مزجوا بين الفلسفة والمنطق والعقيدة، وفلاسفة المغرب والأندلس مثل ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، الذين نقلوا الفلسفة الإسلامية إلى قمتها، وأسهموا في نهضة أوروبا ذاتها.
يقول المؤلف:
“الغرب لم يعرف ابن رشد كما نعرفه نحن، بل عظّمه أكثر، حتى صار اسمه يُذكر في جامعات باريس كما يُذكر سقراط وأفلاطون.”
مواجهة الغزالي وابن رشد
أحد أكثر الفصول إثارة في الكتاب هو فصل “الصراع بين الفلاسفة والمتكلمين”، حيث يتناول المؤلف المناظرة الكبرى بين أبي حامد الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، وابن رشد في رده الخالد تهافت التهافت.
يرى لطفي جمعة أن هذه المعركة لم تكن بين شخصين، بل بين اتجاهين: أحدهما يخشى إطلاق العقل، والآخر يرى أن الدين لا يكتمل إلا بضياء الفكر.
“حين كتب ابن رشد ردّه على الغزالي، لم يكن يدافع عن الفلسفة، بل عن الإسلام كما رآه: عقيدة لا تخشى العقل، وشريعة لا تكره السؤال.”
فيلسوف النهضة يكتب عن فلاسفة الإسلام
تميّز محمد لطفي جمعة بأسلوبه العذب ولغته الأدبية الرصينة، وقدرته على مزج الفكر بالتاريخ، والسرد بالتحليل. لم يكن فيلسوفًا أكاديميًا، بل مفكرًا موسوعيًا من جيل النهضة، تأثر بمحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، وكتب بجرأة واستنارة.
ولد في الإسكندرية عام 1886، ودرس الحقوق، وأتقن الفرنسية، وترجم أعمال تولستوي وفولتير، لكنه ظل حريصًا على التأصيل العربي الإسلامي لفكره.
وفي هذا الكتاب، يربط بين الفلسفة وحرية الفكر، ويذكّر بأن الأمة التي تُقصي العقل، تحكم على نفسها بالجمود.
مقارنة بكتب حديثة
رغم صدوره منذ نحو قرن، لا يزال هذا الكتاب يحتفظ بمكانة متفردة بين المؤلفات التي تناولت الفكر الفلسفي في الإسلام:
عبد الرحمن بدوي في كتابه الفكر الفلسفي في الإسلام قدّم عرضًا أكاديميًا تحليليًا أوسع، لكنه جافّ خالٍ من الروح.
محمد علي أبو ريان في فلاسفة الإسلام كتب بأسلوب مدرسي تقليدي.
أما محمد عابد الجابري، فقرأ التراث الفلسفي قراءة تفكيكية عصرية، لكن دون تقديم السرد التاريخي الذي اجتهد فيه لطفي جمعة.
الميزة الفريدة عند لطفي جمعة أنه جمع بين الأمانة التاريخية والأسلوب الأدبي، بين الحس النقدي وروح الوفاء للحضارة.
اقتباسات مختارة من الكتاب
“الفلسفة الإسلامية لم تكن يومًا صدىً باهتًا لأصوات اليونان، بل كانت صرخة العقل الحر في وجه الجمود.”
“كل أمة تُعادي الفلسفة، تُشيّع جنازة عقلها، وتدفن قدرتها على الاختيار.”
“من لا يقرأ تاريخ فلاسفة الإسلام، لا يدرك أن حضارتنا لم تكن يومًا عدوةً للعقل، بل كانت أحد أعمدته الكبرى.”
في هذا العصر الذي يشتدّ فيه الصراع بين النقل والعقل، وتُهمّش فيه الأسئلة العميقة لصالح الشعارات الجاهزة، يعيدنا محمد لطفي جمعة إلى زمنٍ كانت فيه الفلسفة جزءًا من العبادة، والسؤال جزءًا من الإيمان.
وإذا كان العرب قد كتبوا يومًا فصلًا مضيئًا في تاريخ العقل الإنساني، فإن هذا الفصل لم يُختتم بعد، بل ينتظر من يُعيد قراءته، لا كماضٍ مجيد، بل كإرثٍ صالح للاستئناف.