ما رأيت أحد مكنه الله من عدوه وخصمه ولو بعد حين، كما رأيت من حال شيخنا الدكتور النبوي شعلان أمد الله في عمره وعمله، مما يحكيه لي من تصاريف القدر التي تُشبه الأساطير والأعاجيب المدهشة.
فقد كان على مدار حياته، كلما عدا عليه عاد أو ظلمه ظالم، تدور به الأيام ليضع الله بين يديه هذا الظالم وهو في قمة الضعف والانكسار، وكأن الله تعالى بقدرته يقول له: هيا يا نبوي خذ حقك وانتقم لنفسك، واقتص من ظالمك، وأحيانا كان شيخنا فعلا ينتقم، لكنه في أغلب المواقف يعفو ويصفح، لأن العجب من تصاريف القدر وقتها، يكون أبلغ وأعلى من أي انتقام.
كان مما قصه لي حكاية غريبة تشهد بقدرة الله القوي الغالب المنتقم، إذ كان حفظه الله وهو طالب في سن 16 في امتحان الشهادة الابتدائية الأزهرية عام 1954 يجلس في لجنة الامتحان وعليه مراقبان، ثم ما لبثا أن جاءهما مراقب ثالث فيه طفح من ثقل الظل وظلام الروح، ولما جاء الاختبار الشفوي للقرآن الكريم قال له ذلك المراقب: اتل يا فتى من أول قوله تعالى:(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار)، فقال له التلميذ النبوي: هل تريد التي في البقرة أم التي في آل عمران؟ لم يكن يعلم الشيخ بالآية الثانية، وطلب من الفتى أن يريه إياها، فلما أراه.. اعتبر الشيخ المراقب أن هذا الصنيع تجهيلا له وتعالما من التلميذ على مكانته ووقاحة منه على شخصه، وبدلا من أن يفرح بيقظة التلميذ الصغير، أراد أن يعاقبه على فطنته التي عدها جرأة منه وتحديا، فأخذ يعصره عصرا في امتحان القرآن من أوله إلى أخره، يسأل السؤال يعقبه السؤال، والفتى يجيب بما أعانه الله من حافظته التي لم تخطئه في الرد على كل أسئلة الشيخ الذي تمنى أن يكسر زهوه بحفظه للقرآن، ولما أدرك المراقب الظالم أن ذلك بعيد المنال، قال للتلميذ: افتح كتاب النحو وأخذ يسأله فيه وفي قواعده وأمثلته والفتى يجيب ولا يتلعثم، كان كتاب شذور الذهب لابن هشام في النحو، وسأله في (باب قبل وبعد) وفي باب (إعمال اسم الفاعل)، وهنا يدهم الفتى النبوي مغصًا كلويا شديدًا، إذ كان يعاني من حصوات بالكلى، فطلب الاذن من هذا الشيخ لحاجته دخول الحمام، فأذن له وقال له: إياك أن تظن أنك ستهرب مني؟ سأصلي الظهر وآتي لأُنهي عليك.. ودخل التلميذ النبوي دورة المياه وخرجت منها حصاة كبيرة أعقبتها دماء غزيرة ملأت الأرض، فغسل ملابسه ويديه على الحوض، وإذا بالشيخ المتسلط يدخل الحمام ليتوضأ فوجد هذه الدماء فقال له: ما هذا يا فتى، فقال النبوي: أنا نزلت -حصواية- يا مولانا وبعدها نزفت هذه الدماء، فنظر إليه وقال له كلمة أثرت في نفس الفتى وما زال يتذكرها لهذا الشيخ البغيض إلى اليوم حينما قال له: هذا دم الحيض.!
كان الرجل ورغم كونه أزهريا معمما ويقرأ القرآن وعلوم الدين، إلا أنه كان وقحا حقيرا فظا غليظا لا رحمة في قلبه ولا لين يرفق به من تحت يديه من عباد الله.
كان الفتى مرهقا وكأنه خرج من عملية جراحية، فرآه فراش المعهد من قريته وبلدياته، فلف جسده ببطانية وأقعده على السرير وقال له: انتظر هنا حتى يأتي الشيخ ليكمل معك، فما لبث بضع دقائق حتى جاء المعلم الطاغية والتفت إلى التلميذ وقال: تعالى حتى أُشطب عليه.. كان الجو شتاء وجسد الفتى يرتعد من البرد، ولم تكن كل هذه المظاهر المؤرقة تشفع للصبي الصغير في نفس هذا الجبار العتي أن يتركه ويرحمه، وأخذ يختبره في كتاب النحو فلما انتهى منه دلف إلى كتاب المطالعة والمحفوظات، وقال له: حافظ المحفوظات يا ولد؟ فقال له النبوي: نعم..
وهنا تيقظت في نفس الفتى شيء من الثورة على هذا الظلم والتجني، وألحت في خاطره روح التمرد، وعلى حسب قوله لي: – أنا لقيت المسألة بوخت فقلت زي ما تيجي بأه-
فلما طلب مني أن أتل عليه شيئا من المحفوظات، اخترت أبياتا من قصيدة علي بن الجهم وكأنني أقصده بها، لأنها تطابق أوصافه وأفعاله وحاله فقلت له: يقول علي بن الجهم:
لا تقف للزمان في منزل الضيم ولا تستكن لرقة حال
واهن نفسك الكريمة للموت وقحم بها على الاهوال
فلعمري للموت ازين للحر من الذل ضارعا للرجال
اي ماء يدور في وجهك الحر إذا ما امتهنته بالسؤال
يقول شيخنا النبوي: انتهى اللقاء وحينما ظهرت النتيجة كأنه قتلني، فقد أعطاني النهايات الصغرى في القرآن والنحو والمطالعة والمحفوظات وما كنت أستحق ذلك.
وتدور الأيام وتنقضي العقود وتنطوي السنين، ويعين عضوا فنيًا في تفتيش اللغة العربية بالإدارة المركزية للمعاهد الأزهرية، وكان له زميل مدرس بمعهد الحوامدية يريد أن يسافر إعارة إلى باكستان، ولكن شيخ المعهد كتب فيه تقريرا جيدا في أول السنة وأعبقه بتقرير سيء بعد 20 يوما من التقرير الاول، والذي يعد بهذه الطريقة مزورا يحال للمساءلة القانونية، فتحدث الصديق المُعلم إلى صديقه النبوي بحكم موقعه في التفتيش، أن يحل له الأمر ويجد طريقة يقنع بها شيخ المعهد حتى يتركه للسفر، لأنه لو كتب فيه تقريرا سيئا فلن يتم اختياره للسفر، وسأله النبوي: لماذا يمنعك من السفر ويكتب فيك تقريرا سيئا؟ هل صنعت شيئا ضايقه؟ فقال: في العام الماضي درست لولده مادة اللغة العربية في الثانوية دون أجر وجاء مجموعه 45 من 50، وفي هذا العام طلب مني أن أدرس لابنته، فدرست لابنته حتى الشهر الماضي، ثم أخبرته أن لدي امتحان ماجستير هذا العام يشغلني عن أداء الدرس، فعلمت من باش كاتب المعهد، أنه كتب تقريرًا أخر سيئًا بعدما أخبرته برغبتي.
قال له النبوي: -مش ممكن دا كده يودي نفسه في داهية-
وكان هذا الصديق زميلا للشيخ النبوي في مرحلة الدراسات العليا بالماجستير وقتها، فأراد النبوي أن ينجز مهمة صديقة ويحل الأمر حتى ينجز له مصلحته.
واستطاع النبوي أن يطلع على التقارير السرية من زملائه بالتفتيش، فأخبروه بأن شيخ المعهد كتب تقريرا جيدا في أول السنة عن صاحبك ثم أعقبه بتقرير سيء بعد عشرين يوما فقط، مما يعرضه للمساءلة القانونية، ونصحوه أن يخبر صديقه بأن يتقدم بشكوى للمدير العام بأنه نمى إلى علمه أن شيخ المعهد كتب فيه تقريرين مختلفين وأنه يطلب التحقيق في الأمر، وبالفعل كتب الصديق المعلم شكوته، وأمر المدير العام بتشكيل لجنة للتحقيق في الأمر وكان من هذه اللجنة، وبسرعة استدعي شيخ المعهد للتحقيق في الادارة المركزية في موعد أقصاه أسبوع من تاريخه.
يقول الدكتور النبوي: وبينما أنا جالس في مكتبي، وجدت شيخ المعهد يدخل علي وكانت المفاجأة أنه هو نفسه الشيخ الظالم المفتري الذي امتحنني في الشهادة الابتدائية، وأراني قسوة لم أر مثلها في حياتي.. كانت صدفة عجيبة وغريبة ما كنت أتوقعها أبدا، وإذا به يدخل مكتبي ويجلس على الكرسي المقابل لي، فصحت فيه بصوت عال: قم واقف هل أذنت لك أن تجلس يا ضلالي يا حرامي؟ كان الصوت عاليا جدا غاضبا جدا، مما لفت انتباه الزملاء من المشايخ الذين هرولوا إلي يهدؤون من روعي ويقولون لي: ماذا جرى يا شيخ نبوي عيب يا شيخ نبوي فيه إيه؟
فقلت لهم ستعرفون الان قبل بدء التحقيق، حينما أحكي لكم قصة هذا الرجل.
هل تذكر حينما ذهبت وكيلا للجنة امتحان الشهادة الابتدائية الازهرية في معهد منوف الديني عام 1954؟
فرد الرجل مذعورا: أنا مش فاكر.
فقال له: لكنني أنا فاكر.. هل تذكر ما فعلته معي في كذا وكذا وكذا، وقص حكايته المؤلمة على كل الحضور من ألوها إلى آخرها.
وهنا فزع الجمع الحاضر مما سمعوا ورددوا جميعا قولهم: يا خبر اسود.
ولما جرى التحقيق واعترف الشيخ بمخالفاته قالوا له: ما لحل في جرمك إذن، صمت الرجل ونظر إلى الأرض، وهنا يخرج الدكتور النبوي عن صمته ويقول للجنة: أنا لو منكم لفصلته من وظيفته لأنه صورة سيئة للأزهر والأزهريين فهو غير أمين.
وعزل الرجل من مشيخة المعهد، وكتب في التحقيق: لا يترقى مرة أخرى أي عمل إداري نظرًا لعدم أمانته.
كان الرجل في حالة ذهول، فلم يكن يتخيل أن يكون عقاب الله له بعد هذا الزمن الطويل وعلى يد الضحية التي تمثلت يومها في تلميذ مسكين هزيل ضعيف، فإذا به اليوم أسد له أنياب ينهش فيه، ويذيقه مرارة ما أذاقه للناس من ظلم وبطش وقسوة.
لم تكن فجيعة الرجل في الحكم الذي صدر، بقدر دهشته بهذه الضربة التي وجهها له القدر فعرته وفضحته بين الناس.. فكان حقا كما يقولون: لك يوم يا ظالم.
وقد تبدو القصة مؤثرة، لكنك حينما تسمعها من الدكتور النبوي، تشعر بأساها البالغ وهو يرويها بصوت مؤثر حزين.
