محمد نعمان الدين الندوي يكتب: في ظلال فكر إقبال: (٨) بين يدي النبي ﷺ

 نظرة على محتويات الحلقة:

عنوان هذه الحلقة، هو -نفسه- عنوان القصيدة، التي سنشرح أبياتها في هذه الحلقة إن شاء الله، وكان كتب إقبال هذه القصيدة بمناسبة حرب طرابلس (الحرب الإيطالية التركية) التي استمرت من ٢٩ سبتمبر ١٩١١ إلى ١٨ أكتوبر ١٩١٢م، وقد تحدث فيها إقبال عن شهداء طرابلس، الذين ضحوا بنفوسهم في تحريرها من إيطاليا.

 فحينما شنت إيطاليا الهجوم على طرابلس (ليبيا اليوم)، تصدى الأتراك والعرب وأبناء مصر لمقاومة هذا الهجوم، وصدوا بشجاعتهم وتضحياتهم عدوان إيطاليا.

وكان من أبرز أبطال المقاومة الأتراك أنور باشاه الشهيد، والغازي عصمت أنونو، وكثير غيرهما ممن ستبقى أسماؤهم حية في صفحات التاريخ.

كان أنشد إقبال هذه القصيدة في جامع : “شاهي مسجد” (المسجد الملكي) بلاهور، فبكى وأبكى.

 * * *

السأم من الدنيا والاستئناس بالعالم الروحي

البيت:

گراں جو مجھ پہ یہ ہنگامہ زمانہ ہوا

جہاں سے باندھ کے رختِ سفر روانہ

ہوا

الترجمة:

لما ثقل علي (ضقت ذرعًا بـ: ) صخب الزمان وضجيجه وفتنته.

حزمت متاعي وشددت رحلي.

 وخرجت من الدنيا عازمًا على السفر..

الشرح:

هذا البيت إشارة إلى بداية تجربة إقبال الروحية.

يقول : لما أتعبته مشاكل الدنيا وأضناه ضجيجها، ارتحل وسافر..

ثم : “الثقل” لا يرمز إلى التعب الذهني فقط، بل يشير -كذلك- إلى التعب الروحي أيضًا.. الذي يرفع الإنسان وينتشله من حضيض الشهوات والقذارة المادية إلى سمو الآفاق وطهر الروح.

في الشطر الثاني من البيت يومئ إقبال إلى اعتزامه للطيران الروحي

إن : “شد الرحال” ليس إشارة إلى العدة الظاهرية فحسب، بل يعني -كذلك- الاهتمام بالإعداد الفكري والروحي.. أيضًا، إنه يرمز إلى أنه قد تنحى عن الدنيا، ورغب عنها باحثًا عن الحقيقة العليا.

 * * *

الطيران في فضاء الطهر والعلو

قیودِ شام وسحر میں بسر تو کی لیکن

نظام کہنہ عالم سے آشنا نہ ہوا

الترجمة

لقد قضيت الحياة في أسر – مقيدًا بقيود – الليل والنهار.

ولكن لم أتمكن من معرفة نظام العالم القديم.

الشرح:

يعبر إقبال : عن “الحياة الدنيا” بـ : “الحدود والقيود”، أي أنه يعيش في هذه الدنيا مقيدًا بقيودها والتزاماتها، ولكن قيودها لم تتمكن من اعتقال روحه، والحد من طيرانه.

إن اختلاف الليل والنهار ودورانهما عبارة عن التقييد الآلي للوقت. ولكن إدراك إقبال وطيران فكره أسمى وأعظم..

أما الشطر الثاني من البيت، فيقول فيه إقبال:

أنا وإن عشت كثيرًا في هذه الدنيا، وخضت غمارها، وكنت جزءًا منها، إلا أنني لم أتمكن – لحد الآن. – من فهم ألاعيبها ومناوراتها حق الفهم..

نعم! لم أستطع أن آلَف نظامها المؤسس على الظلم والنفاق والازدواجية..

 فلم أكد أهضم هذا النظام الدنيوي المتناقض أو استسيغه لحد الآن..

فكأن كل واحد – في الدنيا – متحد مؤتلف متوافق ظاهرًا.. ولكنه – في الحقيقة – مختلف متعارض متناكر باطنًا..

فالخلاصة أن إقبالُا يُعرّف بـ : “إنسان” يعيش في الدنيا ويلتزم بقيودها، وينتظم في نظامها..

ولكنه – رغم ذلك كله – حرً روحيًا، مستقل فكرًا، إنه يعيش كأي إنسان عادي من عامة الناس، ولكن قلبه ينفر من نظامها، ولا ينسجم مع بيئتها.

وهذا هو الظمأ الروحي الذي يوصله إلى مجلس الملائكة، ويشرفه بالمثول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

 * * *

شرف المثول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم:

البيت:

 فرشتے بزمِ رسالت میں لے گئے مجھ کو

حضور آیہَ رحمت میں لے گئے مجھ کو

الترجمة:

لقد أوصلني الملائكة إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم المبارك

إنهم أوصلوني إلى مجلسِ مَن كان آية الرحمة.

الشرح:

إن هذا البيت كأنه يبين كمال رحلة الشاعر الروحية، وصعودها إلى أقصى منازل السمو والارتقاء.

فالشاعر قد سئم ومل ويئس من مفارقات الدنيا وبهلوانيتها، فضاق بها ذرعًا، ولم يطق معايشتها، فينتقل إلى عالم روحي طاهر، حيث يوصله الملائكة إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا ليس محض تصور أو تخيل شعري، بل إنما هي مشاهدة روحية (كما قال بذلك بعض شارحي كلام إقبال).

إن “مجلس النبوة” استعارة لمحفل مبارك عظيم، يغشاه النور، وينزل فيه الوحي، وتمطر عليه شآبيب الرحمة والهداية، والمغفرة والرضوان.

و”آية الرحمة” تتلاءم مع لسان القرآن الكريم، الذي يخاطب -نفسُه- النبيَ صلى الله عليه وسلم قائلًا : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

والحقيقة أن هذا البيت ليس إلا تعبيرًا عاطفيًّا عن تشبع إقبال بحب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يسري منه مجرى الروح والدم، وعن تجاربه الروحية، وشعوره الكامل الصادق بأهمية الرسالة وعظمتها.

 * * *

الإشادة النبوية بنغمات إقبال الشجية:

البيت:

کہا حضور نے اے عندلیبِ باغِ حجاز

کلی کلی ہے تری گرمیِ نوا سے گداز

الترجمة:

قال الرسول صلى الله عليه وسلم (حينما رآني): يا عندليب روضة الحجاز!

إن كل نَور – من أنوار الروضة – صار طربًا نديًّا طريًّا بلحنك العذب الشجي.

الشرح:

روضة الحجاز : أي روضة الإسلام.

إن هذا البيت يمثل مستوى أعلى من التصور الشعري، فيقدَّم إقبالُ عندليبًا إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يخاطب -بنفسه-: الشاعرَ قائلًا: «يا عندليب روضة الحجاز». وهي استعارة بليغة عميقة..

أما كلمة: «العندليب».. فتعني: ذلك الرجل الذي يُغنّي بكلمات الحمد ويشدو بالمديح النبوي بألحان عذبة ندية.

(فكأن إقبالُا يمثل نفسه مغنيًا مطربًا لهذه الروضة الروحية).

والشطر الثاني من البيت يقول: إن شاعريتك، وكلماتك، وألحانك وأناشيدك، التي تشنف بها الآذان، إنها تحمل من الروعة والتأثير ما جعل كل شيء من الفطرة يتأثر ويهتز طربًا له.

أي أن شاعرية إقبال بلغت من التأثير مبلغًا خياليًّا.. فقد تجاوز تأثيرها الإنسانَ إلى كل ما في الكون من الأشياء.. فلا يتأثر ولا يتفاعل معها – مع شاعرية إقبال – الإنسانُ فقط.. بل يتأثر بها كل ما في الطبيعة والكون من الأزهار والأنوار، والأشجار والأطيار، والنبات والجماد.

وقال بعض شارحي كلام إقبال: إن المراد بـهذا الشطر أن كل فرد من أفراد الأمة تأثر بشعر إقبال، واهتز له طربًا بسحر لفظه، وروعة معناه.

 * * *

التشبع بحب النبي صلى الله عليه وسلم:

البيت:

 ہمیشہ سرخوشِ جامِ ولا ہے دل تیرا

فتادگی ہے تری غیرتِ سجودِ نیاز

الترجمة:

إن قلبك لا يزال مخمورًا بكأس حبنا،

وفيك خضوع وتواضع، يمثل غبطة للسجدات الخاشعة.

الشرح:

 إن قلبك عامر بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، مخمور به، جارٍ منك مجرى الروح والدم.

وإن تواضعك سبب غبطة لآلاف السجدات المنيبة.

أي إن في تواضعك يكمن سِرّ عزُّك وشرفُك.

وهذا هو إنسان الإسلام الكامل..

استسلام تام لله رب العالمين

ووقارٌ وأدبٌ وخُلقٌ مع الخَلق.

 * * *

الطيران:

البيت:

 اُڑا جو پستیِ دنیا سے تو سوئے گردوں

سکھائی تجھ کو ملائک نے رفعتِ پرواز

الترجمة:

لما سموت بنفسك من ضعة الدنيا إلى السماء

علمك الملائكةُ الطيرانَ في العلو.

الشرح

يشير الشاعر إلى رقيه الروحي.

أي حينما يرتفع الشاعر أو أي إنسان من الدنيا وأهوائها.. يمكن له أن يطير إلى آفاق العلو..

 حيث يعلمه الملائكة الطيران في السمو.

هذه استعارة صوفية تعني أن الإنسان حينما يعرض عن الدنيا، ويزهد فيها، وينيب إلى الله تعالى مخلصًا له الدين..

حينذاك.. يحظى بصحبة الملائكة وتربيتهم ۔

 * * *

ما الهدية؟

البيت:

نکل کے باغِ جہاں سے برنگِ بو آیا

ہمارے واسطے کیا تحفہ لے کے تو آیا

 الترجمة:

أنت خرجت من روضة الدنيا كرائحة فواحة ۔۔‌

فما الهدية التي جئتَ تحملها إلينا؟

الشرح:

شُبّهَت الدنيا بروضة جميلة ولكن فانية..

كرائحة: أي موجود مثل الطيب.. ولكن بدون جسم..

هذا البيت تعبير عن لطف التجربة الروحية، والوصول إلى عالم المثال، وخدمة الأمة الإسلامية.

يشير الشاعر إلى طيرانه الروحي، فبعد ما فارق الدنيا، تشرف – في صورة: طِيْب لطيف غير مادي – بالمثول بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم..

فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تأتي من الدنيا الفانية.. من دنيا الإنسان..

فما الرسالة.. أو التضحية.. أو الثروة الروحية.. التي جئت بها منها إلينا؟

وطبعًا.. هذه محادثة معنوية روحية، يمثل فيها الشاعرُ الأمةَ الإسلامية.

أما الطيران فيعني تبليغ الرسالة الإلهية وإيصالها إلى العالم.

* * *

أين السعادة:

البيت:

حضور! دہر میں آسودگی نہیں ملتی

تلاش جس کی ہے، وہ زندگی نہیں ملتی

الترجمة:

يا رسول الله! لا أكاد أجد شبعًا، أو لا أكاد أشبع (روحيًّا) في الدهر (أي في الدنيا)

ولا أجد الحياة التي أبحث عنها.

الشرح:

يقول الشاعر: لا راحة حقيقية ولا طمأنينة قلبية في هذه الدنيا المادية.

يبحث الإنسان عن السعادة والراحة في كل شيء.. في المال.. في الجاه والسلطان.. في الأقرباء والأشقاء.. ولكن الراحة القلبية التي تحصل بالإيمان والمعرفة والصدق، لا توجد في أي شيء غير الإيمان..

ويقول في الشطر الثاني من البيت: إن الحياة الحقيقية.. الحياة الروحية.. حياةَ الهدف والمبادىء.. التي يتيه الإنسان بحثًا عنها..

إن هذه الحياة قد ضاعت وغابت واختفت في لمعان الدنيا وبهرجتها.

إن هذا البيت يشير إلى تصور الإسلام للحياة، ورؤيته للحياة الدنيا والآخرة، ويبين الفرق بينهما بيانًا فلسفيًّا عميقًا..

 * * *

عنقاء مغرب:

البيت:

 ہزاروں لالہ و گل ہیں ریاضِ ہستی میں

وفا کی جس میں ہو بو، وہ کلی نہیں ملتی

الترجمة:

توجد في روضة الدنيا آلاف من الأزهار والأنوار.

ولكن البرعم (أي الإنسان) الذي تفوح منه رائحة الوفاء، لا نكاد نجد له حسًّا..، (أي صار مثل عنقاء مغرب.. لا توجد له عين ولا أثر..).

الشرح:

المعنى واضح.. أي يعيش على هذا الكوكب الأرضي ملايين الملايين من البشر.. ولكن كما قال الشاعر العربي:

ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم

والله يعلم أني لم أقل فندًا

نعم. فما أكثر الناس.. ولكنهم عارون متجردون من الصفات الإنسانية من المروءة والنبل والوفاء وغيرها.

ثم الوفاء عام شامل.. الوفاء لله.. الوفاء لرسوله.. الوفاء للإنسانية.. الوفاء للأمة والوطن..

 * * *

أغلى هدية:

البيت:

 مگر میں نذر کو اک آبگینہ لایا ہوں

جو چیز اس میں ہے، جنت میں بھی نہیں ملتی

 * * *

الترجمة:

لقد جئت -بقدح من- الزجاج، هديةً إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

وفيه -أي القدح- من الشيء الغالي الثمين – ما لا يوجد مثله حتى في الجنة.

الشرح:

يقول الشاعر في أسلوب عاطفي يقطر حبًّا ورقة:

إن الوفاء وإن صار نادر الوجود في الدنيا..

ولكن جئت بأكبر رمز للوفاء.. دم الشهداء… (أي دم شهداء طرابلس).

«القدح من الزجاج» رمز للطف والرقة والنعومة والشيء الغالي الثمين.

يحب إقبال أن يهدي إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا يتجلى فيه الوفاء والتضحية والفداء والإيثار.

 * * *

شرف الأمة

البيت

جھلکتی ہے تری امت کی آبرو اس میں

طرابلس کے شہیدوں کا ہے لہو اس میں

الترجمة:

يترقرق فيه عِرض أمتك وعزها ووقارها.

فيه دم شهداء طرابلس..

الشرح:

والآن يكشف إقبال الستار عن حقيقة القدح الزجاجي.. فيقول: إن هذا القدح ليس خاليًا.. بل إنه مظهر من مظاهر غيرة الأمة وعزتها وشرفها.. فيه دم الشهداء الطاهر الذي أغلى اضعافا مضاعفة من أي شيء مادي..

يشير إقبال بهذا البيت إلى أن تضحية الأمة هذه – هي في الحقيقة – عز الأمة الأصيل وشرفها الحقيقي.

وهي -التضحية- التي تجدر بإهدائها إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

(الأحد: ١٥ من صفر ١٤٤٧ھ = ١٠ من أغسطس – اب – ٢٠٢٥م)