في السودان ليس فقط الحرب التي تُفكك المدينة والقرى، بل الماء نفسه صار عملة نادرة. حين تستيقظ عائلتان نازحتان وسط ليبيا القديمة، يدرك الأهل أن كأس الماء اليومي—حلم لا يتعدى الـ3 لترات—قد لا يصل بالأطفال، وقد لا يكفي حتى لغسل الأيدي التي تحتجب تحت الطين. هذه الكمية الضئيلة، لا تمثل إلا نصف الحد الطارئ الذي تفرضه منظمة الصحة العالمية، والذي يقدر بـ7.5 لترات يوميًا للشخص الواحد من أجل الشرب والطهي والنظافة.
في هذا السياق القاتم، تنسج الكوليرا خيوطها السوداء، تجتاح بلدان السودان وولاياته، ما عدا واحدة، منذ أن أعلنت وزارة الصحة عن أولى حالاتها في ديسمبر 2024. وعلى مدى الأشهر الماضية، انتشرت العدوى كالسهم بين الضحاياين، فتجاوز عدد المصابين 99,700 شخص، وبلغ عدد الوفيات نحو 2,470 وفاة بحلول منتصف أغسطس 2025، معظمهم في دارفور وولايات أخرى منكوبة
الانهيار لم يأتِ وحده، بل ترافق مع الحرب التي تشنّها قوات الجيش وقوات الدعم السريع منذ أبريل 2023. تلك الحرب دمرت خطوط الحياة: المستشفيات المهدمة، ونسبتها تفوق 80%، تكاد لا تقاوم. جرّاء القصف والدمار، انقطعت محطات المياه والمضخات، وتوقفت محطات الكهرباء التي كانت تؤمّن ضخ الماء الصالح للشرب
في الخرطوم، صراع الماء صار أكثر وضوحًا. بين 15 و25 مايو 2025، ارتفع عدد الإصابات اليومية من 90 إلى 815 حالة—ويقف خلف ذلك هجوم على محطات القوى وقطع التيار، إضافة إلى انهيار أداء شبكات المياه فأين يجد الإنسان الماء، إن لم يجد إلا 3 لترات؟ هؤلاء الذين يحملون الأطفال على ظهورهم في مرمى الرصاص لا يرون فرقًا بين الماء والدم.
في غرب البلاد، دارفور تحترق بين القذائف، والمئات مأوى شبهه مخيمات مكتظة، تعاني من انعدام الماء وتفشي الأوبئة. في تاويلا، وحدها فرق أطباء بلا حدود (MSF) التي توافدها الأمل وقد أبلغت عن أكثر من 2,300 حالة وأكثر من 40 وفاة خلال أسبوع، في “أسوأ تفشٍ للكوليرا منذ سنوات” كما قالوا
وسط هذا الجحيم، يحلق نور الإنسانية عبر الجهود التي يبذلها اليونيسف وشركاؤها. في ولاية النيل الأبيض مثلاً، تسبّب انقطاع كهربائي بضربة قوية في فبراير 2025، حيث توقفت مضخات المياه واضطر الناس لجمع الماء من النيل نفسه، فانتشرت الكوليرا بين أقصر السبل للوصول للماء، أما في الخرطوم، أطلقت هيئة المياه حملة تطعيم فموي عظيمة استهدفت أكثر من 2.6 مليون شخص خلال 10 أيام في يونيو 2025، في مسعى لكسر دَورة العدوى وسبق أن استجاب مماثل للحملة، وأوصل لقاح الكوليرا إلى أكثر من 2.24 مليون شخص في مواقع ذات خطورة، وخفّض عدد الحالات الجديدة إلى نحو 10-11 يوميًا في يوليو
ومن جهة أخرى، تشير اليونيسف إلى أن الحرب دمرت خدمات المياه في 13 ولاية، وأخرجت 70% من مرافقها عن الخدمة، ليزداد الخطر على نحو 9 ملايين امرأة وطفل محرومين من الماء النظيف . هؤلاء النساء، والأطفال، والنازحين… جميعهم مرهقون، متألمون، يضعون الأطفال على الجمر.
ورغم ذلك، تنبثق بصيص الأمل من التعاطي الميداني: فرق متطوّعة تتجوّل بين المنازل، تحمّل عبوات الكلور، تنشر تعليم غسل اليدين، وتعزز حياتها بطرق بسيطة لكنها فعّالة، في تحمل الأزمة وإنمائها إلى بشرى. أقراص الكلور تُوزَّع، محطات تعقيم متنقلة تنهض، ومراكز علاجية تُنشأ من العدم في المستنقعات المأهولة. اليونيسف قالت: “لقد نجحنا في خفض عدد المرضى من أكثر من 100 يوميًا إلى نحو 14 فقط”، وكأن الحياة انتصرت ولو قليلاً .
غير أن النجاح، رغم بريقه، لا يكفي. كثير من حاجات الاستجابة ما تزال بلا تمويل، إذ أن 86% من خطة الاستجابة الإنسانية لسودان 2025 لم تُموّل بعد، مما يعني أن ملايين البشر لن يجدوا الماء، أو الكلور، أو العلاج . وفي الوقت ذاته، حذّرت الأمم المتحدة من أن الغذاء والماء هو السلاح الأقوى—وأنه إن فشلت الإنسانية في السودان، سنواجه كارثة إنسانية لا تُمح
.
خلاصة سردية تترك أثرًا في القلب والذاكرة:
في السودان الممزّق بالرصاص والدمار، لا يحمل الناس فقط أمتعتهم، بل آمالهم في كأس ماء. من 3 لترات يوميًا يعيشون، وأحيانًا أقل، ما لا يكفي دفء احتضان طفل بعد يوم تعب، أو غسل وجه ينتظر الندى البارد. الكوليرا انتشرت فيها أجنحة الموت، لكن بعض الناس رفعوا راية الدفاع الأخيرة: العاملون الميدانيون، المتطوّعون، الأمهات اللاتي يوزعن الكلور، وفرق اليونيسف/MSF والـIRC التي أسمعتهم أن الحياة قد تُخلق في قطرة ماء.
هذا ليس مجرد وباء، بل معركة يومية من أجل الإنسانية. وكلما أخمدنا نيران الكوليرا بالماء النظيف، كلما أطفأنا شعلة العدوى، وأبقينا ذاك الطفل يبتسم، والأم تشعر بالامتنان. تلك هي القصة… قصة ماء بات أغلى من الذهب في أرض تصارع الموت لتعيش.