أيها الناس، غزّة تلفظ أنفاسها الأخيرة، غزّة تُساق إلى حتفها أمام أعين العالم الصامت، بل المتواطئ أحياناً.
الرعب والفواجع تتزاحم وتتناسل: خراب شامل، مجازر دامية، إبادة جماعية، جوع ينهش الأجساد حتى العظم، اقتلاع شعب من جذوره وكرامته، وتصفية حلمه في الحياة الحرة. جثث مبعثرة هنا وهناك، أشلاء لأطفال ونساء ورجال، أنفاسهم انقطعت وهم يركضون نحو النجاة، فلم يدركهم سوى الموت. مبانٍ شامخة بالأمس تحولت إلى غبار، مستشفيات ومنازل ومساجد ومدارس صارت حفراً وركاماً، شوارع كانت تنبض بالحياة صارت مقابر مفتوحة. أرزاق تبعثرت، محلات أغلقت، وأسواق خلت، وقلوب تحتضر في مشهد جماعي مؤلم.
أجساد بلا قبور، حُبست تحت الإسمنت والحجارة والحديد البارد، صرخاتها لم تجد من ينقذها. أطفال يرفعون أواني فارغة، يلهثون وراء لقيمات لا تأتي، يتصارعون على ما تبقى من فتات طعام مفقود. رجال ونساء يتسابقون على قطرة ماء، يتدافعون عند شاحنات الإغاثة الهزيلة التي لا تكفي حتى لربع المحتاجين. أيدٍ مرفوعة نحو السماء، وعيون شاخصة من البكاء والقهر، شعب مكلوم يصرخ ويستغيث، يناجي رب الكون لينهي محنته ويقتص من الكيان القاتل.
لكن من سيعيد البيوت التي اندثرت، والذكريات التي دفنت تحت الركام؟ من سيجبر الكسر عن قلوب أُغرِقَت في الدماء واليأس؟ من سيعيد الأمل لنداءات ضاعت في الفراغ ولم تجد آذاناً صاغية؟ ماذا عن الأطفال الهزالى الذين تحوّلوا إلى هياكل عظمية تتحرك بصعوبة، والحوامل اللواتي أسقطن جنينهن قهراً وجوعاً، والشيوخ الذين ترنحوا حتى السقوط من شدة الإنهاك والجفاف؟ ماذا عن بيوت أُطفئت مصابيحها، بلا ماء ولا خبز، وأبواب أُغلقت على صمت الموت، وإغاثة عاجزة لم تبلغ مبتغاها؟
أي لعنات تُكتب على جبين البشرية، والجوع يفتك بالعشرات كل يوم، يسقطون واحدًا تلو الآخر، جوعى قبل أن تقتلهم القذائف. أطفال يموتون وهم يتشبثون بصدور أمهاتهم الخاوية، مرضى يذوون على أسِرّة بلا دواء ولا حيلة، عائلات تبحث في القمامة عن ما يسد الرمق، نساء يطبخن أعشاب الحقول ليبقين على قيد الحياة. إنها مأساة جوع يوازي مأساة الحرب، موت بطيء يتربص بمن أفلت من القصف، وكأن الحصار والمجاعة سلاح آخر لا يقل فتكاً عن الصواريخ.
لقد صدر حكم الإعدام على غزّة، ونُفّذ بدم بارد، على يد إسرائيل، وجه الشيطان، إبليس المتجسد، الغادر الماكر، وسط صمت دولي مخزٍ، وتخاذل عربي مريع. فمن سيحاسب على هذه الجريمة الكبرى؟ من سيعوض وطنًا سُلب، وشعبًا شُرّد، وطفولة ذُبحت؟ من سيوقف مأساة قرن من الخذلان والخيانة والدم المسفوك؟ من؟ ومن؟ ومن؟