بينما تبحث الحكومات الأوروبية عن حلول لتعويض العجز المتزايد في الموازنات العامة، تعود ضرائب الثروة إلى الواجهة كخيار مثير للجدل. وإسبانيا اليوم، إلى جانب سويسرا والنرويج، تُعد من الدول القليلة التي ما زالت تطبق هذه الضريبة، لتتحول تجربتها إلى نموذج يُستشهد به في النقاشات داخل القارة.
ضريبة عمرها 4 عقود
بدأت ضريبة الثروة الإسبانية عام 1978 مع التحول الديمقراطي، قبل أن تُلغى مؤقتًا وتعود عام 2011 خلال الأزمة المالية. وفي حين أبقت حكومات إقليمية مثل مدريد على معدلها عند “الصفر” لجذب المستثمرين ولاعبي الكرة والأثرياء، أعادت حكومات أخرى فرضها، ما فتح الباب لتباينات حادة بين الأقاليم.
“ضريبة التضامن” بعد الجائحة
مع نهاية 2022، لجأت حكومة بيدرو سانشيز الاشتراكية إلى فرض ضريبة التضامن على الثروات الكبيرة، بحجة تمويل الإنفاق العام بعد كورونا. تبدأ الضريبة من 1.7% لمن تتجاوز ثروتهم 3 ملايين يورو، وتصل إلى 3.5% لمن يمتلكون أكثر من 10 ملايين يورو، مع إعفاء أول 700 ألف يورو و 300 ألف يورو للمسكن الرئيسي.
رغم التحذيرات من “هجرة الأثرياء”، أثبتت الأرقام عكس ذلك: ففي 2023 جمعت الضريبة 1.88 مليار يورو، وارتفع الرقم إلى ملياري يورو في 2024. الأثرياء لم يغادروا، بل زاد عدد المليارديرات من 26 في 2021 إلى 34 في 2024، بثروة إجمالية تفوق 200 مليار دولار.
انقسام سياسي داخلي
تحولت الضريبة إلى معركة سياسية بين حكومة سانشيز المركزية اليسارية، وحكومات إقليمية يقودها المحافظون مثل الأندلس وغاليسيا، التي خفضت أو ألغت الضريبة على المستوى المحلي لجذب الاستثمارات. وباتت القضية عنوانًا للصراع الأوسع بين العدالة الاجتماعية وجذب رؤوس الأموال.
موجة أوروبية جديدة؟
التجربة الإسبانية أعادت إشعال الجدل في دول أخرى:
في بريطانيا، يطالب قياديون في حزب العمال بفرض ضريبة 2% على من تتجاوز أصولهم 10 ملايين جنيه إسترليني، لجمع ما يصل إلى 24 مليار جنيه.
في فرنسا، وافق البرلمان على مقترح يستهدف أصحاب الأصول التي تتجاوز 100 مليون يورو، لكن مجلس الشيوخ رفضه.
هذه الطروحات تأتي في وقت تواجه فيه أوروبا تحديات اقتصادية متراكمة من جائحة كورونا إلى أزمة الطاقة والتضخم، ما يدفع صناع القرار للبحث عن أدوات جديدة لزيادة الإيرادات دون المساس بالطبقات الوسطى والفقيرة.
هل تنجح الضرائب على الثروة؟
بحسب محللين، تُظهر التجربة الإسبانية أن الضريبة يمكن أن تكون مصدر دخل فعّال لدعم الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم، وتحد من الفوارق الاجتماعية، إذا طُبقت بصرامة وعدالة. لكن منتقديها يرون أنها قد تُنفر الاستثمارات وتُحفّز التهرب الضريبي إذا لم تُدار بذكاء.
في النهاية، يبدو أن إسبانيا تحولت إلى معمل أوروبي حي لاختبار جدوى ضرائب الثروة. وإذا أثبتت التجربة نجاحها، قد تكون مقدمة لموجة جديدة من السياسات الضريبية عبر القارة العجوز، تعيد صياغة العلاقة بين رأس المال والدولة.