على مدار السنوات الخمس والعشرين الماضية، ازداد تقارُب الهند والولايات المتحدة من بعضهما بعضا أكثر من أي وقت مضى، وبنى البلدان روابط اقتصادية وإستراتيجية قوية. وقد استندت شراكتهما إلى قيم ومصالح مشتركة: فهما أكبر ديمقراطيتَيْن في العالم، وتضمُّان أطيافا من السكان متعددي الثقافات، كما أن كلا البلدين قلق بشأن صعود جار الهند الشمالي، الصين.
ولكن في الأشهر الأربعة الماضية، خرجت هذه العلاقة التي اعتنى بها الجميع في واشنطن ودلهي عن مسارها فجأة، إذ تُهدِّد عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بنسف إنجازات ربع قرن.
وبحسب التقرير المنشور على مجلة”فورين أفيرز” الأمريكية، لقد تجاهلت تصرفات ترامب عددا من أهم شواغل السياسة الخارجية الهندية الرئيسية، متجاوزا خطوطا حمراء حسَّاسة دأبت الإدارات الأميركية السابقة على احترامها. فقد كانت الولايات المتحدة تنظر إلى الهند في السابق بوصفها شريكا أميركيا مهما في آسيا. أما اليوم، فإن الهند تواجه أعلى مُعدَّل للتعريفات الجمركية الأميركية الجديدة، وهو 50%، وهي عقوبة فيما يبدو على شراء الهند النفط الروسي بعد غزو أوكرانيا عام 2022.
تجد الهند نفسها اليوم إذن تحت وطأة جمارك أعلى حتى من تلك المفروضة على الصين، الدولة التي كانت واشنطن، على الأقل حتى وقت قريب، تريد من دلهي أن تساعد في احتوائها، بل إن ترامب يبدو أحرص على إبرام صفقة مع الصين من التراجع عن موقفه المُتشدِّد تجاه الهند. وزاد الطين بلَّة ما أعلنه ترامب في أواخر يوليو/تموز الماضي من صفقة مع الدولة الخصم للهند، باكستان، وهي صفقة تقضي بأن تعمل الولايات المتحدة على تطوير احتياطيات النفط الباكستانية.
جاءت هذه المتاعب الجمركية مباشرة بعد صدمة أخرى للنظام الهندي، وهي تدخُّل ترامب في مايو/أيار الماضي أثناء الصدام العسكري بين الهند وباكستان. فبعد بضعة أيام من الضربات التصعيدية التي تسبَّب فيها هجوم إرهابي دموي في الهند، أعلن ترامب من طرف واحد أنه توسَّط من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين البلدين.
وقد نَفَت الهند ذلك الادعاء بشدة، إذ إن دلهي لطالما قاومت أي وساطة خارجية في نزاعاتها مع إسلام آباد، وكان المسؤولون الأميركيون حريصين على عدم الإساءة إلى الحساسيات الهندية في هذه المساحة. ولكن ترامب أصرَّ على موقفه، ولا شك أنه شعر بالإهانة من النفي الهندي، تماما كما سرَّه الترحيب الفوري من باكستان بادعاءاته، وترشيحها إياه لجائزة نوبل للسلام في نهاية المطاف.
ويشعر المسؤولون الهنود بغضب شديد هذه الأيام، لكنهم يدركون أن الغضب لن يحل غالبا ما فشلت فيه الحجج العقلانية. في الوقت الحالي، قرَّرت نيودلهي انتظار مرور العاصفة، وصياغة ردودها بعناية لتجنُّب تأجيج الموقف أكثر، مع توجيه إشارات للرأي العام الهندي مفادها أنها لن تستسلم ببساطة للبيت الأبيض. إن تداعيات ضغط ترامب واستهانته بالإستراتيجية الكبرى للهند عميقة للغاية، فقد قلبت سياسة ترامب الخارجية الافتراضات الجيوسياسية الأساسية في دلهي، وزعزعت أسس الشراكة الأميركية-الهندية.
إن السياسة المُفضَّلة للهند، المتمثلة في “تعدُّد الانحيازات”، أي السعي لبناء صداقات في كل مكان مع رفض تكوين تحالفات صريحة، أثبتت عدم فعاليتها. ومع ذلك، فإن أفعال ترامب لن تدفع الهند إلى مراجعة كبرى في سياستها الخارجية.
وبدلا من ذلك، ستراقب دلهي المشهد الجيوسياسي المُتغيِّر، وعلى الأرجح ستقرر أن ما تحتاج إليه هو المزيد من العلاقات المثمرة، وليس العكس. ولحماية نفسها من تقلُّبات إدارة ترامب، لن تتخلى الهند عن تعدُّد الانحيازات، بل ستسعى إليه أكثر من أي وقت مضى، وبكل ما أوتيت من قوة.
جذور عدم الانحياز
منذ استقلالها عام 1947، اتبعت الهند في الغالب سياسة عدم الانحياز، فتجنَّبت التحالفات الرسمية، وقاومت الانجرار إلى الكُتَل المتنافسة. وقد شكَّل هذا الموقف ملامح دبلوماسيتها إلى حدٍّ كبير أثناء الحرب الباردة، لكنه بدأ يتغيَّر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حين فتحت الهند اقتصادها وسَعَت إلى تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة.
في الوقت الحالي، يؤكد مجتمع السياسة الخارجية في الهند التزامه بـ”تعدُّد الانحيازات”، الذي يقوم على تنويع الشراكات، ورفض الانضمام إلى التحالفات العسكرية، والسعي إلى نظام عالمي مُتعدِّد الأقطاب لا تُهَيمن فيه قوة عظمى واحدة أو قوتان كبيرتان، مع الاستعداد للانخراط في تعاون قائم على قضايا مُحدَّدة مع طيف واسع من الأطراف، وبشكل عابر لخطوط الصدع الجيوسياسية.
هذه السياسة مدفوعة بكلٍّ من البراغماتية والأمل في أن تتمكَّن الهند من أن تكون قطبا قائما بذاته في النظام العالمي القادم. فقد اعتقد صانعو القرار الهنود أن الاحتياجات الاقتصادية والإستراتيجية والعسكرية للبلاد لا يمكن تلبيتها عن طريق شريك واحد أو تحالف واحد، وافترضوا أن بوسع الهند الحفاظ على علاقاتها مع دول مثل إيران وروسيا مثلا، والاستمرار في العمل عن كثب مع إسرائيل والولايات المتحدة بالتوازي، ثم بناء تحالفات فيما يُسمَّى بـ”الجنوب العالمي”، مع دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، في الوقت نفسه.
وقد تخيَّلت دلهي أن واشنطن بالتحديد ستتسامح مع هذا السلوك، لأن الهند فيما يتعلق بالمنافسة مع الصين والصراع الجيوسياسي في المحيطين الهندي والهادي كانت شريكا لا غِنى عنه للولايات المتحدة.
غير أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض زعزعت أسس تلك الإستراتيجية الهندية، وتحدَّت الافتراضات الراسخة في دلهي. ومع بدء سريان الرسوم الجمركية الأميركية، سيواجه الاقتصاد الهندي ضغوطا شديدة متزايدة يُمكنها أن تبطئ وتيرة النمو الاقتصادي، كما أن العلاقات الأميركية مع باكستان، في أعقاب المواجهة العسكرية في مايو/أيار، تبدو وكأنها تتعزَّز أكثر فأكثر. والآن تشعر الهند بأنها أقل أهمية وأكثر هامشية في مشهد جيوسياسي تكاد تعجز عن فهمه وهضمه.
لقد افترضت الإستراتيجية الهندية عددا من الشروط البنيوية التي قلبها ترامب رأسا على عقب. فقد افترضت الهند، ولأسباب وجيهة، أنها تؤدي دورا محوريا في منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
وبدا أن باكستان هامشية في هذه المواجهة الكبرى، إذ تراجع موقع إسلام آباد على الساحة الدولية بعد أن سهَّلت أجهزتها الأمنية عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان عام 2021. ورغم رفضها إدانة روسيا بعد هجومها على أوكرانيا، ظلَّت الهند شريكا مفضلا لكلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا، حيث تعزَّزت القيمة الإستراتيجية للهند نتيجة رؤية واشنطن لها بوصفها قوة إقليمية مُحتَملة لموازنة نفوذ بكين.
وفَّرت الحرب الروسية على أوكرانيا للهند فرصة فريدة لإظهار سياستها في تعدُّد الانحيازات ورفع مكانتها في الجغرافيا السياسية العالمية. فقد سعت روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، وهي أطراف رئيسية في الصراع، إلى استمالة الهند.
وفي غضون ذلك، تمكَّنت الهند من الحفاظ على علاقاتها مع كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا، حتى وهي تشتري النفط الروسي بأسعار تفضيلية.
وحتى إذا تصرَّفت الولايات المتحدة أحيانا في جنوب آسيا بطرق أزعجت الهند (كما حدث مثلا حين آثرت ألا تتدخَّل لمنع الإطاحة بنظام مؤيد للهند في بنغلاديش عام 2024)، فإن المسؤولين الهنود ظلوا يعتبرون الوجود الأميركي في المنطقة مفيدا في معظمه، ودليلا على أن الولايات المتحدة ترى شبه القارة الهندية جبهة رئيسية في منافستها الكبرى مع الصين. وقد فضَّلت الهند ذلك التدخُّل المزعج أحيانا من قوة عظمى بعيدة على عدوان وطموح الهيمنة الصاعدة لقوة مجاورة.
صدمة لثوابت السياسة الهندية
عقَّدت عودة ترامب إلى البيت الأبيض جميع الافتراضات التي تحرَّكت دلهي وفقا لها. وبدلا من الاستعداد لمنافسة بين القوى العظمى، يبحث البيت الأبيض في شتى أنحاء العالم اليوم عن مكاسب قصيرة الأمد.
ومن هذا المنظور، ترى واشنطن أن ما يمكن أن تجنيه من الصين يفوق بكثير ما يمكن أن تجنيه من الهند، وأنه يجب إنهاء الحرب في أوكرانيا لأن دعم كييف لا يستحق أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وأن مشكلات أوروبا مع روسيا هي مشكلات أوروبية لا مشكلات الولايات المتحدة. وبموجب رؤية كهذه للعالم، يتقلَّص حتما الوزن الجيوسياسي للهند.
ولنأخذ حديث الساعة في الهند على سبيل المثال: الزيادة الكبيرة في الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الهند. فقد دأبت الحكومات الهندية تقليديا على إبقاء منظومة جمارك مرتفعة لحماية التصنيع والزراعة المحليَّيْن، وتوليد الإيرادات، وإدارة الميزان التجاري.
ولطالما برَّرت الهند هذه الرسوم قائلة إنها ضرورية لاقتصادها النامي، لكن الولايات المتحدة من جهتها ليست راضية عن العجز المستمر في الميزان التجاري للسلع مع الهند، ولا عن الدعم الزراعي الهندي الذي يَحُدُّ من وصول المنتجات الأميركية إلى السوق الهندية، ولا عن المناورات الجيوسياسية الواسعة للهند، بما في ذلك عضويتها في منظمة “بريكس” (BRICS) التي تجمع عددا من الدول غير الغربية، واستمرار اعتمادها على النفط والمُعدِّات الدفاعية الروسية.
تعد عضوية الهند في منظمة “بريكس” أحد المآخذ التي ترى إدارة ترامب أن دلهي لا تستحق الأفضلية التي كانت تمنح لها من الإدارات الأميركية السابقة (غيتي)
وقد اعتادت الحكومات الأميركية السابقة التغاضي عن هذه المآخذ، مما أتاح للهند تحرير اقتصادها والانفصال عن روسيا وفق وتيرتها الخاصة، أما إدارة ترامب الحالية، فلا صبر لها على أيٍّ من ذلك.
لم يؤدِّ النهج المُعدَّل لواشنطن تجاه المنافسة بين القوى الكبرى إلى تغيير سياستها تجاه دلهي فحسب، بل أثَّر أيضا في خيارات وقرارات لاعبين كبار آخرين، وهو أمر له تداعيات كبيرة على الهند. فقد أدركت روسيا، على سبيل المثال، أن ترامب أقل التزاما بكثير بدعم أوكرانيا مقارنة ببايدن، وأقل اهتماما بالتحدي البنيوي الذي تطرحه الصين في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وأنه مُتردِّد في تقديم التزامات أمنية لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا.
وبينما استعد ترامب لقمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه ماضٍ في معاقبة الهند على شرائها النفط الروسي، وهي سياسة كانت الولايات المتحدة قد شجَّعتها في السابق. إذن، مع وجود ترامب في البيت الأبيض، باتت لدى روسيا خيارات أكثر، وأصبحت هي الأخرى أقل حاجة إلى الهند.
في الواقع، تشعر موسكو بأن التزامها تجاه دلهي يتضاءل، وهي غير مستعدة لتقديم دعم أكبر مما تتلقاه، وهو ما يفسر موقفها الفاتر أثناء صدام الهند مع باكستان في مايو/أيار الماضي. فقد كانت التصريحات الرسمية لروسيا في ذلك الوقت غامضة، فلم تذكر باكستان بالاسم، ولم تؤيد الردود العسكرية للهند، بل اكتفت بالدعوة إلى تسوية الخلافات دبلوماسيا.
بشكل ما، كرَّرت روسيا الرسائل ذاتها التي تبنَّتها الهند بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022. ومع ذلك، أثارت هذه التصريحات قلق المتابعين الهنود للشأن الروسي، الذين كانوا يتوقعون من الكرملين أن يقف إلى جانب الهند، وأن يدين باكستان، وأن يؤكد حق الهند في الرد، كما فعلت إسرائيل التي أعلنت دعما كاملا للهند.
ويُشكِّك المحللون الهنود اليوم في أن روسيا امتنعت عن ذلك لأنها لم ترغب في إغضاب الصين، التي أصبحت شريكا إستراتيجيا وثيقا لباكستان، وزوَّدتها بكمية كبيرة من الأسلحة الجديدة.
مُستقبلا، من المرجَّح أن تُعطي روسيا الأولوية لتعزيز علاقاتها مع الصين على حساب علاقتها المتدهورة مع الهند. فموسكو، وهي ترى نفسها على مشارف النصر في أوكرانيا، باتت تمتلك أولويات جديدة، إذ تسعى الآن إلى شركاء قادرين وراغبين في تحدي الولايات المتحدة وأوروبا، وليس مجرد شركاء تجاريين.
وتستطيع الصين القيام بذلك، أما الهند فتنحصر اهتماماتها في التجارة. ولذلك قد تتردَّد روسيا في دعم الهند في أي صراع مستقبلي مع باكستان، نظرا لعلاقات الصين القوية مع باكستان. وإذا كان دعم روسيا للهند مشكوكا فيه خلال صراع مع باكستان، فيُمكننا أن نفترض بطبيعة الحال أن موسكو لن تفعل الكثير لمساندة الهند في أي صراع مستقبلي مع الصين.
إن لا مبالاة ترامب النسبية تجاه جنوب آسيا ستعني حتما منح الصين حرية التحرُّك هناك، وستسعى بكين إلى ترجيح كفة ميزان القوى الإقليمي لصالحها عبر مزيج من دبلوماسية فخ الديون، والاتفاقات العسكرية، وتعزيز الروابط السياسية والدبلوماسية مع دول جنوب آسيا.