في زمنٍ كان فيه العالم يقف على حافة الفناء، وتحت دخان المدافع وأزيز الطائرات، وُلِدت أعمالٌ أدبية خالدة صاغت من أهوال الحرب ملاحم إنسانية كبرى. رواية الطلقات الأخيرة للكاتب الروسي يوري بونداريف، إحدى هذه الملاحم التي أخرجت من قلب المعارك مأساة البشر وأحلامهم وآلامهم، لتتحول إلى شهادة أدبية وتاريخية على قسوة الحرب العالمية الثانية، وما تركته من جروح في الروح قبل الجسد.
عن المؤلف: يوري بونداريف
يُعَدّ يوري بونداريف (1924–2014) من أبرز كتّاب الأدب الروسي الحديث، وخصوصاً “أدب الحرب”. فقد عاش بنفسه تجربة الجبهة الشرقية ضد النازية، وشارك في معارك دامية، قبل أن يتجه إلى الكتابة متسلحاً بخبرة حيّة منحته القدرة على تصوير دقائق الميدان وتناقضات النفس الإنسانية.
برز اسمه إلى جانب أدباء روس آخرين حملوا ذاكرة الحرب مثل قسطنطين سيمونوف وفاسيلي غروسمان، غير أن بونداريف تميّز بتركيزه على البعد النفسي والأخلاقي للشخصيات، أكثر من وصفه للمعارك فقط.
عن الرواية: “الطلقات الأخيرة”
تُعَدّ هذه الرواية من أوائل أعمال بونداريف، وتُرجمت إلى العربية بجهد المترجم العراقي البارع غائب طعمة فرمان، الذي عُرِف بقدرته على نقل الأدب الروسي بروح عربية سلسة.
تصوّر الرواية مرحلة متقدمة من الحرب العالمية الثانية، حين بدأ الجيش الأحمر السوفييتي يزحف لطرد النازيين من أرضه. العنوان الطلقات الأخيرة يرمز إلى لحظة الحسم، حيث لا يبقى سوى إرادة الإنسان وقراره الأخير بين الحياة والموت، بين الانتصار والانكسار.
البنية السردية والموضوعات
1- الحرب بوصفها قدراً جماعياً:
ليست الحرب في الرواية مجرد معارك عسكرية، بل هي اختبار إنساني قاسٍ، تذوب فيه الفوارق الفردية، ويتحول الجنود إلى جسد واحد يواجه الموت.
2- البطولة والخذلان:
يبرز بونداريف شخصيات متناقضة: جندي يندفع في مواجهة الخطر بروح بطولية، وآخر يتردّد أو ينهار تحت وطأة الرعب. لكنه لا يُدين أحداً بقدر ما يحاول كشف الجانب الإنساني حتى في لحظات الضعف.
3- الزمن المكثّف:
تدور أحداث الرواية في فترة وجيزة جداً، لكنها مشحونة بالقرارات المصيرية، حيث تكون كل طلقة، كل حركة، حاسمة.
4- لغة شاعرية متوترة:
رغم أنها رواية حرب، إلا أن النص مليء بالصور البلاغية التي تُظهر الطبيعة والأرض والسماء كأنها شريكة في المعركة. وهذا ما جعل النقاد يعدّون بونداريف من أصحاب الأسلوب الأدبي الرفيع.
مكانة الرواية في الأدب الروسي والعالمي
حظيت الطلقات الأخيرة بانتشار واسع في الاتحاد السوفييتي، لأنها جسّدت صورة الجندي العادي الذي تحوّل إلى بطل تاريخي. كما اعتُبرت من الأعمال التأسيسية التي فتحت الطريق أمام بونداريف ليكتب لاحقاً أعمالاً أكثر عمقاً مثل الثلج الحار والشاطئ.
وفي السياق العربي، جاءت ترجمة غائب طعمة فرمان لتكون نافذة مهمّة للقارئ العربي على الأدب الروسي، خصوصاً في فترة ما بعد الخمسينيات حين كان الاهتمام كبيراً بنقل الأدب العالمي إلى المكتبة العربية.
أهمية الترجمة العربية
تميّز غائب طعمة فرمان بترجماته الدقيقة التي تنقل روح النص الروسي دون ترهل أو افتعال. وفي الطلقات الأخيرة ينجح في جعل اللغة العربية تحمل نفس الإيقاع المتوتر للحرب، ونفس الشحنة الإنسانية المرهفة. وبذلك ساهم في جعل الرواية جزءاً من تجربة القارئ العربي، لا نصاً مترجماً فحسب.
أبعاد سياسية وتاريخية
رواية الطلقات الأخيرة ليست مجرد عمل فني، بل وثيقة تكشف جانباً من رؤية السوفييت للحرب العالمية الثانية، حيث اعتُبرت “الحرب الوطنية العظمى”. إنها شهادة على مرحلة حاسمة شكّلت النظام الدولي لما بعد الحرب. كما أنها تعكس صورة الإنسان وهو يواجه الموت، لا باسم الشعارات فقط، بل بدافع البقاء والكرامة والحرية.
في ميزان النقد
إيجابيات الرواية: العمق النفسي، التركيز على الإنسان لا على الأرقام العسكرية، اللغة المكثفة، بناء حبكة متصاعدة.
المآخذ: بعض النقاد الغربيين رأوا أنها متأثرة بالخطاب الدعائي السوفييتي، وأنها تُعلي من قيمة التضحية الجماعية على حساب الفرد. لكن آخرين أكدوا أن بونداريف تجاوز الدعاية إلى الأدب الخالص.
الطلقات الأخيرة
إن الطلقات الأخيرة ليست فقط رواية عن الحرب، بل عن الإنسان حين يُوضع أمام حافة المصير. إنها قصة كل جندي مجهول لم يُذكر اسمه في كتب التاريخ، لكنها تجعلنا نسمع أنفاسه ونحسّ رعبه ونفهم تردده. ولعلها بذلك تحقق مقولة دوستويفسكي إن “الأدب هو سجلّ القلب الإنساني في لحظاته القصوى”.