منذ أن دوّت أصوات المدافع فوق سماء بغداد عام 2003، أدركت الولايات المتحدة أن النصر العسكري وحده لا يكفي لإحكام السيطرة. فقد كان لا بد من حرب أخرى موازية، أقل كلفة وأطول أثرًا: حرب الإعلام والثقافة والفكر.
وهنا يأتي كتاب “الإعلام الأمريكي بعد العراق: حرب القوة الناعمة” لمؤلفيه نيثان غردلز ومايك ميدافوي، بترجمة وتقديم بثينة الناصري، ليكشف للقارئ العربي الوجه الأخطر للاستراتيجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين: إعادة تشكيل العقول والوجدان عبر أدوات القوة الناعمة.
الإعلام.. سلاح موازٍ للجيوش
يتناول الكتاب بعمق كيف استثمرت واشنطن في الإعلام بعد احتلال العراق، حين تراجعت صورتها عالميًا، وأصبح الاحتلال مرادفًا للدمار والفوضى. فكان الحل: بناء رواية جديدة عبر الإعلام، لتبرير الحروب وصناعة صورة مشتهاة عن أمريكا بوصفها “حامية الديمقراطية”.
يوضح المؤلفان كيف خاضت واشنطن الحرب إعلاميًا قبل أن تطلق أول رصاصة، من خلال شبكات مثل سي إن إن وفوكس نيوز.
يسلطان الضوء على دور هوليوود في صياغة صورة العربي كإرهابي، مقابل “الجندي الأمريكي” الذي يجسد البطولة والخلاص.
يكشفان كيف أنشأت واشنطن منصات إعلامية ناطقة بالعربية مثل الحرة وراديو سوا لتوجيه الرأي العام في المنطقة.
يناقشان التوسع في الحرب الرقمية، حيث تحولت الإنترنت ومواقع التواصل إلى منصات حرب ناعمة تخدم الاستراتيجية الأمريكية.
فصول ومحاور الكتاب
1- الإعلام والحرب: كيف سبقت الرواية الإعلامية الاحتلال العسكري ومهّدت له.
2- هوليوود والسياسة: صناعة الصور النمطية عن العرب والمسلمين وتلميع “الحلم الأمريكي”.
3- الإعلام العربي تحت السيطرة: مساعي واشنطن لاختراق الفضاء الإعلامي العربي وتوجيه خطابه.
4- الدبلوماسية الثقافية: استثمار الجامعات، الموسيقى، السينما، والبرامج التعليمية كقوة ناعمة.
5- الفضاء الرقمي: الإعلام الجديد كأداة أخطر من القنوات التقليدية في حروب الوعي.
القوة الناعمة.. الحرب التي لا تُرى
يؤكد المؤلفان أن القوة الناعمة ليست بديلاً عن القوة العسكرية، لكنها الواجهة التي تسبقها وتبررها. الإعلام يصوغ الرواية: الاحتلال يُقدَّم كتحرير، والمقاومة تُصوَّر كإرهاب. إنها حرب صامتة بلا دماء، لكنها تستهدف أخطر ما في الإنسان: عقله وهويته.
ومن بين ما جاء في الكتاب:
“لقد أدركت الولايات المتحدة أن السيطرة على العقول قد توازي في تأثيرها السيطرة على الأرض، وأن الأفلام والأخبار قد تُخضع شعوبًا أكثر مما تفعل الجيوش.”
الترجمة والرؤية العربية
قدمت المترجمة بثينة الناصري في مقدمتها رؤية نقدية ثرية، أشارت فيها إلى أن العراق كان الميدان الأكبر لتجربة هذه القوة الناعمة. فالحرب لم تُشن فقط على المدن والقرى، بل امتدت إلى الذاكرة والوعي واللغة، محاولةً محو الهوية العراقية وإعادة صياغتها بما يخدم المشروع الأمريكي.
مقارنة مع الكتابات العربية
لم يكن هذا الطرح بعيدًا عن رؤى مفكرين عرب:
محمد حسنين هيكل تحدث عن “الاستعمار الجديد” الذي يلبس ثوب الإعلام والثقافة.
فهمي هويدي حذر مبكرًا من الفضائيات المموَّلة التي تُعيد إنتاج الرواية الأمريكية بلسان عربي.
دراسات عربية أخرى في “الإعلام السياسي” أكدت أن المعركة تبدأ من نشرات الأخبار لا من جبهات القتال.
وهكذا، فإن الكتاب لا يعرض تجربة أمريكية فحسب، بل يعكس حقيقة يعيشها العرب: أن معركتهم لم تعد على الأرض فقط، بل على الهوية والوعي.
البعد السياسي والفكري
يضع هذا العمل القارئ أمام حقيقة أن الإعلام الأمريكي لم يعد مجرد ناقل للخبر، بل جزءًا من المشروع السياسي الأمريكي، هدفه إخضاع الشعوب الناعمة قبل إخضاعها الصلبة. ويثير سؤالًا مهمًا: إذا كانت واشنطن قد استوعبت مبكرًا أن الحرب الحقيقية هي حرب الوعي، فهل استوعب العرب هذه الحقيقة؟
لماذا هذا الكتاب مهم اليوم؟
لأنه يكشف جذور الحروب الإعلامية التي تتجلى اليوم في الفضاء الرقمي.
لأنه يفضح كيف جرى تسويق الحروب تحت شعارات الديمقراطية والحرية.
لأنه يفتح الباب أمام مراجعة دور الإعلام العربي: هل كان مقاومًا أم أداة للاختراق؟
اقتباسات لافتة من الكتاب
“القوة الناعمة ليست نقيض القوة العسكرية، بل هي سلاحها الموازي الذي يهيئ الطريق ويبرر الغزو.”
“الإعلام قد يُسقط أنظمة ويغير خرائط بلا طلقة واحدة.”
“بعد العراق، فهمت أمريكا أن صورتها أهم من سلاحها، وأن هوليوود قد تُكمل ما تعجز عنه البنتاجون.”