شهد العالم في العقود الأخيرة تحولات جوهرية في موازين القوى الاقتصادية والاستراتيجية، وكان من أبرز تجلياتها تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين في مجالات متعددة ، منها التكنولوجيا والطاقة والصناعات العسكرية ، ومن أهم ميادين هذا الصراع المعادن النادرة، تلك المجموعة من العناصر الكيميائية والتي عددها لايتجاوز الـ(17 عنصراً) والتي تدخل في الصناعات الحيوية الحديثة، من الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية بالإضافة إلى أنظمة التوجيه الصاروخي وأجهزة الاتصالات المتقدمة وغيرها من التقنيات.
أهمية المعادن النادرة
تمثل المعادن النادرة العمود الفقري للصناعات التكنولوجية المتقدمة ، فالعناصر مثل النيوديميوم والديسبروسيوم والتي تعد من ألاساسيات في صناعة المغناطيسات القوية، بينما يستخدم الإيتريوم واللانثانوم في الشاشات والبطاريات ، وهذه المعادن باتت اليوم جزءاً لا غنى عنه في الصناعات المدنية والعسكرية، مما جعلها أشبه بـ”نفط العصر الرقمي”.
الهيمنة الصينية
تسيطر الصين على ما يقرب من 60 – 70% من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة، كما تملك احتياطيات ضخمة وتتحكم في سلاسل الإمداد والتكرير ، ونجحت بكين عبر سياسات استراتيجية مدروسة منذ ثمانينيات القرن الماضي في بناء صناعة متكاملة لا تقتصر على استخراج هذه المعادن فحسب ، بل تمتد إلى معالجتها وتحويلها إلى منتجات تدخل في الصناعات الإلكترونية والعسكرية العالمية.
الموقف الأمريكي
أما الولايات المتحدة، التي كانت سابقاً منتجاً رئيسياً لهذه المعادن، أصبحت تعتمد بشكل كبير على الصين في وارداتها ، هذا الاعتماد أثار قلقاً استراتيجياً متزايداً لدى صناع القرار في واشنطن، خصوصاً مع تصاعد التوترات التجارية والعسكرية بين البلدين ، وتخشى الولايات المتحدة أن تستخدم الصين سلاح المعادن النادرة كورقة ضغط في النزاعات التجارية أو الجيوسياسية، على غرار ما فعلته في نزاعاتها مع اليابان عام 2010.
محاولات واشنطن لتقليل الاعتماد
لمواجهة هذه المعضلة، بدأت الولايات المتحدة بتنويع مصادرها عبر:
1- إعادة تشغيل المناجم المحلية مثل منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا.
2- عقد شراكات دولية مع دول غنية بالمعادن النادرة مثل أستراليا وكندا.
3- الاستثمار في إعادة التدوير واستخدام بدائل تكنولوجية لتقليل الطلب على هذه العناصر.
4- التعاون مع الحلفاء لإنشاء سلاسل توريد بعيدة عن النفوذ الصيني.
5- محاولة الاستفادة من الصراع في اوكرانيا للسيطرة على ما يوجد فيها من معادن نادرة .
انعكاسات الصراع
هذا الصراع لا يقتصر على الجانب الاقتصادي، بل له أبعاد جيوسياسية عميقة ، فمن جهة، تحاول الصين تعزيز مكانتها كقوة عظمى قادرة على التحكم في شرايين الاقتصاد العالمي ، ومن جهة أخرى، تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على تفوقها التكنولوجي والعسكري عبر ضمان إمدادات آمنة ومستقرة من هذه المعادن ، والنتيجة أن المعادن النادرة أصبحت جزءاً محورياً في المنافسة الاستراتيجية الكبرى بين واشنطن وبكين.
الخلاصة
المعادن النادرة تحولت من مجرد عناصر كيميائية إلى أداة جيوسياسية تعكس حجم التداخل بين الاقتصاد والسياسة والأمن القومي في النظام الدولي المعاصر ، ومن المرجح أن يشتد الصراع الأمريكي–الصيني حولها مع تسارع الثورة التكنولوجية وانتقال العالم نحو الطاقة النظيفة، مما يجعل التحكم في هذه الموارد عاملاً حاسماً في تحديد القوى المهيمنة خلال العقود المقبلة.
د. لبيب جار الله المختار (أكاديمي عراقي)