رغم أن مشهد الحرب في غزة يوجع كل بيت فلسطيني، فإن الشوارع في الضفة الغربية لم تشهد موجات احتجاج عارمة كما كان متوقعاً. بعض المنتقدين، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي، رأوا أن الضفة لم تتحرك بالقدر المطلوب بينما غزة تدفع ثمناً باهظاً. كما برز قدر ملحوظ من الانتقادات في العالم العربي على لسان إعلاميين ومثقفين وناشطين.
وبحسب التقرير المنشور على ” بي بي سي” بعض سكان غزة عبّروا عن شعور بالخذلان، معتبرين أن الضفة لم تتحرك كما يجب. وحتى في الضفة نفسها، تحدث مثقفون وناشطون عن تراجع مشاركة الناس في الاحتجاجات.
فما الأسباب الحقيقية وراء هذا العزوف؟
يقول ناشط في أحد الفصائل الفلسطينية في الضفة لبي بي سي: “إن هذا السؤال جزء من اجتماعات الحزب”.
حرب البقاء في الضفة الغربية
لم تخفِ السلطة الفلسطينية معارضتها لهجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل اعتبرتها خطوة ضارة بالمشروع الوطني، وضيّقت على الاحتجاجات التي خرجت إلى الشارع، مبررة ذلك بضرورة الحفاظ على صورة “دولة تلتزم بالقوانين” أمام المجتمع الدولي، فانتشرت قوات الأمن الفلسطينية بكثافة، وفرضت قيوداً على أي حراك خارج الإطار السياسي المقبول لها.
إجراءات السلطة للحد من الاحتجاجات قلّصت من دون شك نطاق التعبئة الشعبية، إلا أن ذلك لم يوقف احتجاجات الفلسطينيين من قبل. على سبيل المثال، خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن في ديسمبر/كانون الأول 2023، حاولت قوات الأمن تفريق المتظاهرين، إلا أن المحتجين واصلوا اعتصامهم في أحد الشوارع المؤدية إلى مقر الرئاسة وأحرقوا صورة لبلينكن.
ويقول عبد الفتاح دولة، المتحدث باسم حركة فتح التي يرأسها محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية: “إن فتح نظمت العديد من المظاهرات”.
وبالفعل دعت حركة فتح إلى مسيرات، لكن عدد المشاركين فيها كان محدوداً أيضاً. ويقر دولة بأن “هناك حالة من عدم الرغبة في التظاهر، وهذا أمر مفهوم ومن حق الناس أن يختاروا أمنهم وسلامتهم”.
منذ بدء الحرب على القطاع، كثفت إسرائيل ضغوطها على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وبررت ذلك بأنها تتخذ إجراءات أمنية مشروعة. وظلت القيادات الإسرائيلية تروج لسياسة تهجير الفلسطينيين، وهو ما أثار حالة من الغضب لدى الفلسطينيين ليس فقط في غزة، بل في الضفة أيضاً، خاصة مع التوسع الاستيطاني وتزايد عدد المستوطنين.
يشار إلى أنه منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية عام 1967، بنت إسرائيل عشرات المستوطنات التي بلغ عدد سكانها نحو 700 ألف مستوطن. وتعتبر غالبية الدول ومنظمات المجتمع الدولي المستوطنات مخالفة للقانون الدولي، وهو ما ترفضه إسرائيل.
وقد أعطت وزارة الدفاع الإسرائيلية (الأربعاء) الضوء الأخضر لخطة “إي 1” الاستيطانية المثيرة للجدل التي تهدف إلى بناء نحو 3400 وحدة سكنية بين القدس ومستوطنة معالي أدوميم في الضفة الغربية. هذا المشروع كان قد جُمّد منذ عقود وسط معارضة دولية واسعة لأنه سيؤدي فعلياً إلى فصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها. وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش وصف القرار بأنه “تاريخي” ويشكل “خطوة مهمة سوف تمحو عملياً وهم الدولتين، وترسخ سيطرة الشعب اليهودي على قلب إسرائيل”، وفق صحيفة ذا تايمز أوف إسرائيل.
يقول أحمد غنيم، أحد قادة حركة فتح، إن إسرائيل اعتمدت بشكل واضح “أسلوب التخويف والردع بعد السابع من أكتوبر، وهو ليس جديداً، لكنه اتخذ أشكالاً أكثر حدة هذه المرة”.
وقد أثر ذلك في الشارع والأحزاب الفلسطينية في الضفة، فبرزت رؤية سياسية موحدة لم تقتصر على حركة فتح، بل اشتركت فيها أيضاً جميع الفصائل في منظمة التحرير الفلسطينية. هذه الرؤية يشرحها خليل شاهين، الكاتب والمحلل السياسي في المركز الفلسطيني للدراسات الاستراتيجية: “لا يوجد قرار وطني بالذهاب إلى انتفاضة، بل على العكس، ما يجري هو انعكاس لقرار القيادة الفلسطينية باتباع سياسة البقاء في مواجهة ما تعتقد أنه هجمة إسرائيلية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين.” وبالفعل، هذا ما لمسته في حواراتي مع الكثيرين في الشارع الفلسطيني؛ فالهدف الأسمى هو البقاء والصمود.
هل انتهى حلم الفلسطينيين بدولتهم؟
“الصدمة المزمنة”
في الأسابيع الأولى التي تلت السابع من أكتوبر، شهدت الضفة موجة مواجهات مسلحة مع الجيش الإسرائيلي، خاصة في مخيم جنين ومخيم بلاطة (نابلس). لكن هذه المواجهات لم تتحول إلى انتفاضة شاملة، إذ سرعان ما كثّفت إسرائيل سياسة الضربات الاستباقية، عبر اغتيالات واعتقالات وتدمير للبنية التحتية في الأماكن التي اعتبرتها حاضنة للمجموعات الفلسطينية المسلحة التي قام بعض أعضائها بشن هجمات ضد إسرائيل. ظلت الظاهرة محدودة جغرافياً ومتقطّعة، ولم تتحول إلى ظاهرة عامة في كافة أنحاء الضفة، كما يقول خليل شاهين، الذي يضيف أن “هذه الأحداث المتسارعة في الضفة الغربية والاقتحامات وهجمات المستوطنين والقتلى والاعتقالات والإغلاقات جعلت الفلسطينيين يعيشون حالة صدمة، لكنها تختلف عن غزة”.
ويضيف شاهين أن “العامل الديموغرافي تغير بسرعة، وبات عدد المستوطنين كبيراً، ولهم جماعات مسلحة تهاجم الفلسطينيين. وبالتالي، أصبح الفلسطيني في الضفة منشغلاً بالتصدي للمستوطنين أكثر من اهتمامه بالتظاهر تضامناً مع غزة، فهو يرى نفسه في نفس المعركة اليومية مع الجيش والمستوطنين.”
هذه “الصدمة المزمنة”، كما تصفها خزام بدران الممثلة والمخرجة الفلسطينية التي تعمل أيضاً في المجلس التشريعي الفلسطيني، “جعلت الناس في حالة توتر مستمر، يشعرون أن حياتهم مهددة في أي لحظة. جزء من الناس يعيش حالة خوف ويفضل السلامة على المواجهة، وجزء آخر يتحول خوفه إلى غضب ورد فعل، خصوصاً بين الشباب.”
“الناس في حالة دفاع عن النفس”، هكذا يقول محمد من مخيم الأمعري، حيث شهد المخيم عمليات اقتحام كثيرة من قبل الجيش الإسرائيلي. أما رولا، التي تعمل في متجر للأثاث، فتقول: “أنا لا أنام الليل خوفاً على أطفالي وأبكي كل ليلة على غزة”.
تعرض الفلسطينيون في الضفة كذلك لعدد متزايد من الهجمات التي نفذها مستوطنون، وتسببت في خسائر بشرية ومادية. ففي يونيو/حزيران الماضي، سجلت الأمم المتحدة أعلى عدد شهري من الإصابات في صفوف الفلسطينيين منذ أكثر من عقدين، حيث ذكرت أن 100 فلسطيني من سكان الضفة أصيبوا بجروح في هجمات شنها مستوطنون. وخلال النصف الأول من عام 2025، سجلت الأمم المتحدة 757 هجوماً لمستوطنين أسفر عن خسائر بشرية أو مادية، بزيادة تبلغ نحو 13 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.
غياب الرؤية السياسية
يسود الشارع الفلسطيني شعور بالقلق حيال المبادرات العسكرية والسياسية. الانقسام السياسي، وغياب القيادة الموحدة، وتراجع الثقة، جعلت الناس أقل استعداداً للمشاركة.
في حوار أجريته مع مجموعة من الشبان في أحد المقاهي في رام الله، أجمعوا على أن عدم الاحتجاج يتعلق بعدم وجود قيادة يلتفون حولها ويثقون بها. وفي الواقع، أثبتت التجربة في المناطق الفلسطينية مراراً أن الناس لم يخشوا السلطة أو الجيش الإسرائيلي حين كانوا يحتجون عند مناطق التماس، لكن يبدو أن الأمر مختلف هذه المرة. يقول أحدهم: “عندما تكون القيادة واضحة وصريحة بشأن القرارات، والأسباب التي تقف وراءها، والنتائج المتوقعة، يقل الشك والتأويل بين الناس”، وأضاف آخر: “لا تخرج القيادة الفلسطينية لتوضح لنا الصورة.”
الوضع الاقتصادي المتدهور زاد من عزوف الناس عن الاحتجاجات. سياسة العقوبات المالية التي فرضتها إسرائيل، مثل حجب أموال المقاصة، أدت إلى أزمة خانقة لدى السلطة، فقلّصت رواتب موظفيها منذ بدء الحرب. كما ارتفعت معدلات البطالة بعد منع السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من العمل داخل إسرائيل.
كما لم يعد بإمكان الناس التنقل بحرية للعمل في التجمعات الفلسطينية نتيجة انتشار الحواجز والبوابات العسكرية. ومنذ السابع من أكتوبر، أقام الجيش الإسرائيلي بوابات عسكرية على معظم مداخل المدن والقرى ومخارجها، وأغلق بعضها بشكل كامل، بينما يتم فتح وإغلاق أخرى في أوقات يحددها الجيش. وأصبح هناك الكثير من الازدحام والتأخير والانتظار لساعات طويلة عند الحواجز، ما يضيف أعباءً إنسانية واقتصادية كبيرة على حياة الفلسطينيين.
كل هذا وغيره أثر على القدرة الشرائية للمواطنين، فتراجع القطاع الخاص أيضاً. ومع مصادرة إسرائيل آلاف الدونمات وخاصة الأراضي الزراعية والرعوية، تضرر القطاع الزراعي والرعوي الفلسطيني.
تقول خزام بدران: “الناس اليوم يركزون على لقمة العيش وإغاثة أهل غزة بطرق مختلفة، بدل الانخراط في حراك دائم”. وتضيف: “عند وقوع الاجتياحات، يتحول اهتمام الناس إلى حماية العائلات وتوفير الغذاء والإسعافات، لأن الخروج في مظاهرة وسط هذا الحال لن يجدي نفعاً”.
الاحتجاجات الشعبية في الضفة الغربية لم تختفِ، لكن يبدو أنها تأقلمت مع واقع أمني واقتصادي وسياسي معقد. ما بين الانقسام الداخلي، والتصعيد الإسرائيلي، وتدهور المعيشة، وغياب رؤية سياسية جامعة، باتت أشكال التضامن مع غزة تتخذ مسارات أقل علنية وأكثر فردية أو رقمية، بعيداً عن مشهد الشوارع المزدحمة والهتافات الجماعية.