في لحظة وصفها بعض المراقبين بأنها “أخلاقية بامتياز”، أعلن صندوق الثروة السيادي النرويجي، الأكبر في العالم بقيمة تريليوني دولار، انسحابه من شركة كاتربيلر الأميركية وخمسة بنوك إسرائيلية.
قرار يهزّ الأسواق والدبلوماسية
القرار لم يكن مفاجئًا تمامًا، إذ سبقته تلميحات من هيئة الأخلاقيات النرويجية، لكنه جاء ليؤكد أن المال لم يعد محايدًا حين يتعلق الأمر بالحروب والانتهاكات.
القرار أثار عاصفة من ردود الأفعال المتباينة: ارتياح في الأوساط الفلسطينية والدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، انزعاج في إسرائيل، وحذر في الولايات المتحدة.
وبين هذه الضجة، برز سؤال جوهري: هل يمهّد هذا القرار لموجة عالمية من الاستثمارات الأخلاقية التي قد تغيّر قواعد اللعبة؟
خلفية: ما هو الصندوق النرويجي ولماذا يهم؟
صندوق الثروة السيادي النرويجي، المعروف رسميًا باسم “صندوق التقاعد الحكومي العالمي”، يدير عائدات النفط والغاز النرويجي. وهو ليس مجرد أداة مالية، بل ذراع سياسية وأخلاقية تعكس قيم البرلمان النرويجي.
منذ تأسيسه، تبنّى الصندوق سياسة قائمة على “المعايير الأخلاقية”، واستبعد شركات عدة تورطت في إنتاج الأسلحة النووية أو انتهاكات البيئة وحقوق الإنسان. قراراته تتابعها الأسواق باهتمام، لأن مجرد سحب حصته من شركة ما قد يرسل إشارات سلبية للمستثمرين حول العالم.
كاتربيلر في مرمى الاتهامات
لم يكن استبعاد كاتربيلر مفاجئًا، فقد ارتبط اسمها منذ سنوات بالجرافات الضخمة التي تُستخدم في هدم منازل الفلسطينيين.
هيئة الأخلاقيات النرويجية أوضحت في تقريرها أن الشركة “لم تتخذ إجراءات تمنع استخدام منتجاتها في عمليات تدمير غير قانونية”.
الخبراء يرون أن هذه الضربة ليست مالية فقط، بل رمزية أيضًا. فكاتربيلر، التي تُسوّق نفسها كشركة للبناء والتطوير، تُتهم الآن بأنها شريك غير مباشر في “الهدم والتدمير”.
هذه الصورة قد تلاحقها في الأسواق الأوروبية والآسيوية، حيث الحساسية تجاه حقوق الإنسان أكبر بكثير من الولايات المتحدة.
البنوك الإسرائيلية: تمويل الاستيطان
البنوك الخمسة الإسرائيلية – هبوعليم، لئومي، مزراحي تفاحوت، فيبي القابضة، والبنك الدولي الأول لإسرائيل – كانت محل تدقيق منذ سنوات بسبب دورها في تمويل الاستيطان.
التقرير النرويجي أشار بوضوح: هذه البنوك ساعدت في ضمان القروض لمشاريع إسكان داخل المستوطنات، وهو ما يجعلها “شريكًا أساسيًا” في ترسيخ وجود غير قانوني بموجب القانون الدولي.
هنا يكمن البعد الأخطر للقرار: هو لا يستهدف شركات الأسلحة أو المقاولات فقط، بل يتجه نحو المؤسسات المالية التي تشكّل عصب الاقتصاد الإسرائيلي. وهذا يفتح الباب أمام مقاطعة واسعة قد تشمل التأمين، والاستثمارات، والصناديق التقاعدية العالمية.
ردود الأفعال: صمت وارتباك
إسرائيل: التزمت السفارة الإسرائيلية في أوسلو الصمت، وهو صمت يشي بالارتباك أكثر من اللامبالاة. مصادر في تل أبيب وصفت القرار بأنه “تسييس للاستثمار”.
الولايات المتحدة: لم يصدر تعليق رسمي، لكن خبراء في واشنطن حذروا من أن القرار قد “يفتح الباب أمام حملات أوسع” قد تطال شركات أميركية أخرى متهمة بدعم إسرائيل.
أوروبا: تلقى القرار بترحيب نسبي، خاصة في الأوساط اليسارية والحقوقية، التي طالما ضغطت لربط التجارة والاستثمار بالقانون الدولي.
فلسطين: رحّبت السلطة الفلسطينية وحركات المجتمع المدني بالخطوة، معتبرة إياها “انتصارًا للعدالة الأخلاقية”، ودليلًا على أن “المال يمكن أن ينحاز للحق”.
الخبراء: قراءة في المعاني الخفية
يرى خبراء الاقتصاد السياسي أن القرار يوجّه ثلاث رسائل أساسية:
1. إلى إسرائيل: الاستيطان ليس مشروعًا اقتصاديًا آمنًا، بل عبء قد يكلفها عزلة مالية متزايدة.
2. إلى الشركات العالمية: الحياد لم يعد خيارًا، والضغط الأخلاقي قد يترجم إلى خسائر مالية.
3. إلى الحكومات الغربية: المجتمعات الأوروبية باتت أكثر حساسية تجاه انتهاكات غزة والضفة، ما قد ينعكس في سياسات رسمية مستقبلية.
الخبير النرويجي “أولاف ستورم” قال في تصريح: “إنه أكبر دليل على أن رأس المال لم يعد يتحرك فقط بحثًا عن الربح، بل أيضًا عن الشرعية الأخلاقية.”
التداعيات على الأسواق
على المدى القصير، قد لا تخسر كاتربيلر أو البنوك الإسرائيلية كثيرًا ماليًا، فحجم التخارج محدود مقارنة بمجموع قيمتها السوقية. لكن على المدى الطويل، التأثير معنوي ويضرب سمعة هذه المؤسسات.
المستثمرون المؤسسيون – مثل صناديق التقاعد الأوروبية – غالبًا ما يتخذون قرارات مشابهة بعد مثل هذه السابقة. يكفي أن يتبع خطى النرويجيين عدد قليل من الصناديق الكبرى ليصبح الأمر “موجة مقاطعة ناعمة” لا يمكن تجاهلها.
البعد السياسي والدبلوماسي
القرار لا ينفصل عن السياق السياسي الأوسع:
حرب غزة المستمرة منذ أكتوبر 2023 جعلت الرأي العام العالمي أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين.
المحكمة الدولية وصفت المستوطنات بأنها غير قانونية، ما وفر غطاء قانونيًا لأي مقاطعة.
النرويج تاريخيًا لعبت دور الوسيط في الصراع العربي–الإسرائيلي (اتفاق أوسلو 1993)، وبالتالي فإن تحركها يحمل رمزية إضافية.
محللون في بروكسل رأوا أن الخطوة قد تدفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة النظر في علاقاته الاقتصادية مع إسرائيل، خصوصًا في ملفات مثل الاستيطان والمنتجات القادمة من الضفة الغربية.
توقعات مستقبلية: إلى أين يتجه المسار؟
1. موجة انسحابات جديدة: من المتوقع أن تحذو بعض الصناديق الأوروبية والجامعات الأميركية حذو النرويج.
2. ضغط على الشركات العالمية: شركات مثل HP، Airbnb، وحتى شركات بناء إسرائيلية قد تكون في دائرة الخطر.
3. تسييس الاستثمار أكثر: هذا القرار يعزز اتجاه ربط الاستثمارات بالقانون الدولي وحقوق الإنسان.
4. انعكاسات داخل إسرائيل: قد يخلق نقاشًا داخليًا حول كلفة الاستيطان اقتصاديًا، وليس فقط سياسيًا.
إسرائيل بين الإنكار والقلق
إسرائيل رسميًا ستواصل رفض “تسييس الاستثمار”، لكنها تدرك أن المشكلة ليست في خسارة مئات الملايين، بل في الخوف من العدوى.
إذا بدأت المؤسسات المالية العالمية ترى أن التعامل مع إسرائيل مضر بسمعتها، فقد تواجه الدولة العبرية عزلة مالية تدريجية، شبيهة بما حدث لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال الثمانينيات.
خاتمة: المال يتحدث بلغة الأخلاق
قرار الصندوق النرويجي ليس نهاية المطاف، بل ربما مجرد بداية لمسار طويل يعيد تعريف العلاقة بين رأس المال والسياسة.
ففي عالم تتشابك فيه الأسواق مع القضايا الحقوقية، لم يعد الاستثمار مجرد أرقام، بل أصبح موقفًا أخلاقيًا.
وبينما تتطلع إسرائيل إلى الحفاظ على مكانتها الاقتصادية وسط العاصفة، قد تجد أن المعركة المقبلة لن تُحسم فقط في ميدان السياسة أو الحرب، بل أيضًا في بورصات العالم وصناديق التقاعد.