صدر حديثاً عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء الترجمة العربية لكتاب الفيلسوف الفرنسي روبير ريديكير «شبكات التواصل الاجتماعي – حرب التنانين»، بترجمة الباحث المغربي سعيد بنكراد.
يقع الكتاب في 336 صفحة، ويُعد من أعمق الدراسات الفلسفية التي تناولت ظاهرة المنصات الرقمية بالنقد والتحليل، متجاوزاً الانبهار التقني إلى مساءلة الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تُحدثها هذه الوسائط.
فلسفة التنين الرقمي
ينطلق ريديكير من فكرة أن شبكات التواصل لم تعد مجرد أدوات للتسلية أو للتعبير عن الرأي، بل تحوّلت إلى تنين كاسر يتحكم في أنفاس المجتمعات وحياة الأفراد. يقول:
«لقد ولدت هذه الشبكات كأداة، لكنها تحوّلت سريعاً إلى سيّد جديد، يفرض منطقه الخاص على الأفراد والمجتمعات والدول».
ويضيف في موضع آخر: «لم يعد الرأي العام يُبنى على حوار متزن، بل على انفعالات عابرة، وموجاتٍ من التصفيق أو الشتائم».
هكذا يصوّر المؤلف العالم الافتراضي كـ”وحش فرانكشتاين” المعاصر، كائن اخترعه الإنسان لكنه عاد ليستعبد مخترعه. فالمستخدمون اليوم أسرى للخوارزميات التي تحدد ما يقرأونه ويشاهدونه، حتى باتت الحرية الفردية وهماً داخل فضاء تحكمه شركات التكنولوجيا العملاقة، المعروفة بـ”غافام” (غوغل، آبل، فايسبوك، أمازون، مايكروسوفت).
الإنسان بين العزلة والافتراضية
يرى ريديكير أن هذه الشبكات زعزعت أركان المجتمع التقليدي، وغيّرت طبيعة العلاقات الإنسانية. فبدلاً من الحوار المباشر والحميمي، غرق الإنسان في محادثات افتراضية جوفاء، وأصبح معزولاً داخل فقاعته الرقمية رغم ضجيج العالم الافتراضي. يقول:
«لقد أصبحنا سجناء كائنٍ صنعناه بأيدينا، كائنٍ عاد ليهيمن علينا ويعيد تشكيل وعينا ورغباتنا».
ويحذر المؤلف من أن هذه الوسائط أنتجت جيلاً جديداً من “المواطنين الرقميين” الذين يتشكل وعيهم وفق موجات عاطفية متقلبة، حيث يكفي زر “إعجاب” أو وسم عابر لتغيير الرأي العام وإحداث ضجة قد تُطيح بسياسي أو ترفع آخر في ساعات معدودة.
المنصات والسياسة.. سلطة جديدة
يولي الكتاب أهمية كبرى للبعد السياسي لشبكات التواصل. فقد باتت هذه المنصات لاعباً رئيسياً في الانتخابات، والثورات، وصناعة القرار العالمي. من “الربيع العربي” إلى الانتخابات الأمريكية، ومن الاحتجاجات الأوروبية إلى الأزمات الإفريقية، أصبح فيسبوك وتويتر وغيرهما بمثابة برلمانات افتراضية تؤثر في الشارع وفي مواقف الحكومات.
ويشير ريديكير إلى أن هذه الشبكات لا تنقل الخبر فحسب، بل تصنعه، وتوجه النقاش العام وفق مصالح الشركات المالكة لها، لتصبح سلطة فوق الدول. يقول:
«إنها حرب ناعمة، لكنها أكثر خطراً من أي مواجهة عسكرية، لأن العقول تُستباح بلا مقاومة».
بين التقنية والأخلاق
لا يكتفي الكتاب بتشخيص المخاطر، بل يدعو إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالتقنية. فالتكنولوجيا، وإن كانت ثمرة عبقرية بشرية، فإنها تحوّلت إلى سلطة مستقلة، تعيد صياغة القيم وتوجّه الاختيارات السياسية والاقتصادية، بل وتعيد تعريف مفاهيم مثل الحرية، الحقيقة، والهوية.
الترجمة وإضافة البعد العربي
نجح سعيد بنكراد في نقل النص الفرنسي بلغة عربية رصينة، مع تقديم مدخل نقدي يضيء خلفيات الكتاب ويشرح أبعاده الفلسفية، مستفيداً من خبرته في السيميائيات. وهكذا لم يقتصر العمل على الترجمة، بل قدّم إضافة فكرية تسهّل على القارئ العربي الولوج إلى عالم ريديكير المركب.
عن المؤلف
روبير ريديكير (مواليد 1954) فيلسوف ومفكر فرنسي، أستاذ للفلسفة في جامعة تولوز، عُرف بكتاباته النقدية حول الحداثة وما بعدها، وبمواقفه المثيرة للجدل في قضايا الحرية والدين والمجتمع. كتب عدة مؤلفات فلسفية، أبرزها: «الفلسفة والحداثة» و*«أيديولوجيا الرياضة»*. وفي كتابه هذا، يواصل تقليده في نقد ما يراه تهديداً للقيم الإنسانية الأصيلة.
مقارنات عربية
يشبه الكتاب في طروحاته بعض الأعمال العربية التي ناقشت أثر الوسائط الحديثة، مثل كتاب سعيد بنسعيد العلوي «الحداثة الرقمية وأسئلة الإنسان»، أو كتاب محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي حينما تناول علاقة المعرفة بالسلطة، وإن في سياق مختلف. كما نجد صدى لفكر ريديكير في كتاب عبد الله الغذامي «ثقافة تويتر» الذي حاول رسم ملامح الإنسان العربي الجديد في زمن المنصات الرقمية.
أهمية الكتاب
يكشف الوجه الخفي لشبكات التواصل كقوة موازية للدول.
ينبه إلى مخاطر العزلة وفقدان الانتماء داخل عالم رقمي مصطنع.
يشرح كيف تُدار السياسة بالعواطف والهاشتاغات أكثر من البرامج والأفكار.
يفتح نقاشاً عربياً حول مستقبل الحرية والهوية في عصر الرقمنة.
شبكات التواصل الاجتماعي
ليس كتاباً في التكنولوجيا بقدر ما هو صرخة فلسفية وسياسية ضد هيمنة العالم الافتراضي على المصير الإنساني. إنه يدعو القارئ إلى مقاومة هذا التنين الرقمي بالحفاظ على إنسانيته وقيمه، وعدم الانسياق وراء وهم الحرية داخل فضاء تُديره الشركات الكبرى.
إنه كتاب يثير أسئلة وجودية ملحّة: كيف يمكننا أن نعيش أحراراً في زمنٍ تتولى فيه الخوارزميات صياغة وعينا وقراراتنا؟