المعتقلون في سوريا.. جرح لا يندمل

بقدر ما أفرحت المشاهد التي توثّق خروج الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي في صفقة التبادل الأخيرة عموم المسلمين، بقدر ما نكأت جراح عشرات آلاف العائلات في سوريا، التي غيّب نظام الأسد أبناءها في معتقلاته المُظلمة منذ اندلاع الثورة المباركة، ولا يزال يلفّ هؤلاء المعتقلين بقيد سميك، ويعاملهم أسوأ معاملة، دون رعاية غذائية أو اهتمام طبي أو حق في الحياة الكريمة داخل السجن.
يقبع في سجون الأسد أكثر من 135 ألف معتقل بالحد الأدنى، وفق مصادر حقوقية، كثير منهم أمضى 10 سنوات في الأَسر، ورغم أن هؤلاء المعتقلين دخلوا السجون على خلفية مشاركتهم بالثورة ورفضهم ظلم وإجرام وعمالة النظام، إلا أن الفصائل العسكرية التي وُلدت من رحم الثورة لم تبذل جهداً حقيقياً لانتزاعهم من قبضة الأسد طيلة السنوات الفائتة، واكتفت في هذا الصدد بصفقات تبادل محدودة أخرجت أعداداً قليلة لا تتجاوز الآحاد أو العشرات.
أما النظام العميل، فإنه اتخذ قراراً بتغييب المعتقلين حتى إشعار آخر، حيث لا يَقبل بإخراجهم لقاء فدية مالية، ولا يُضمِّنهم بما يُسمى «مراسيم العفو» التي أصدر منها 23 مرسوماً منذ انطلاق الثورة في مارس 2011، كان آخرها المرسوم الصادر يوم 16 من تشرين الثاني الجاري. هذا المرسوم كأمثاله من المراسيم السابقة، منح عفواً عن مرتكبي الجرائم، والمتعاطين للمواد المخدرة، والمختلسين والمُزوِّرين، واستثنى جميع المعتقلين السياسيين والمعتقلين على خلفية الرأي والقتال.
تقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها إن «كافة مراسيم العفو أفرجت عن 7351 معتقلاً تعسفياً، وما زال لدى النظام السوري قرابة 135253 معتقلاً/مختفياً قسرياً. ما يشكل نسبة لا تتجاوز 5% من حصيلة إجمالي المعتقلين والمختفين قسرياً لدى النظام طوال قرابة ثلاثة عشر عاماً، في مقابل استمرار تسجيل قيام النظام السوري بعمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري دون توقف».
ونلفت النظر هنا إلى أن هذه المراسيم الكاذبة الغاشمة لم تظلم المعتقلين السياسيين فقط، بل كان لها مفعول عكسي في انتشار الجرائم في مناطق سيطرة الأسد، حيث صار الجُناة يستسهلون ارتكاب الجنايات والاعتداء على أرواح وممتلكات الناس، فهُم يعلمون أن عفواً قريباً سيصدر ويشمل عقوبتهم.
إن هؤلاء المعتقلين ليسوا أرقاماً مسطورة وأعداداً جافة تزيد وتنقص، بل هم بشر لهم كيان وعقل ومشاعر، وكلٌّ منهم له قصة وحلم وذكريات وطموح ودور في بناء المجتمع؛ كما أن أثر الاعتقال لا يقتصر على الشخص المعتقل، وما يواجهه من تعذيب مادي ونفسي، إنما تمتد تداعياته إلى أسرة المعتقل وذويه الذين تغيّرت ظروف حياتهم بسبب غيابه، فقد كان قسم من المعتقلين يَعُولون أسرهم، والمتزوّجون منهم كانوا يشرفون على نفقة زوجاتهم وتربية أبنائهم، بينما كان بعض المعتقلين على مقاعد الدراسة يتطلّعون لإكمال تعليمهم وبناء مستقبلهم الخاص.
يجب أن ندرك -إذ نتحدّث عن المعتقلين- أن هذا الملف لن يعالجه المجتمع الدولي، فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا يرف لها جفن لعذابات المسلمين ومآسي المستضعفين، وهي الداعم الأول للنظام المجرم، ولولاها لما بقي في السلطة. كذلك فإن إخراج المعتقلين لن يكون عبر المفاوضات بين المعارضة السورية والنظام، إذ هي لا تمتلك أوراق قوة تُجبر من خلالها الأسد على فتح سجونه، فضلاً عن أن هذه المعارضة تسير في خطة عملها وفق توجيهات أميركا التي لا تأبه للمعتقلين ولا حتى غير المعتقلين في سوريا وعموم بلاد المسلمين، إنما تبحث فقط عن مصالحها التي تتمثل في سوريا بإبقاء النظام وإخماد الثورة وجعل البلاد رهينة لها.
إن الحل الجذري لملف المعتقلين هو استئناف معارك التحرير مع النظام المجرم لإسقاطه والسيطرة على البلاد وتبييض السجون، وحتى تحقيق ذلك الهدف يمكن إخراج العديد من المعتقلين من خلال مبادلتهم على ضباط النظام وعناصر الميليشيات الإيرانية الذين يُلقى القبض عليهم خلال المعارك.
لكنّ هذه الغايات السامية لها شرط مهم: أن ينهض الثائرون المخلصون مجدداً، ويُعيدوا ضبط بوصلة الثورة بعد أن انحرف بها قادة فصائل صاروا بمنزلة الموظفين لدى المنظومة الدولية؛ دون ذلك سيبقى المعتقلون في غياهب السجون، وسيبقى من هم خارج المعتقل يعانون النزوح والتهجير والظلم على يد سلطات الأمر الواقع في كامل الأراضي السورية.
أحمد سعد/ ناشط سياسي.