د. عبد الرحمن بشير يكتب: ما الدرس المستفاد من الهجرة النبوية في زمن الموت الحضاري
في منطقتنا موت حضاري شامل، نحن اليوم في خارج التاريخ بشكل كامل لأننا لا نملك قوتنا حتى يمكن لنا أن نملك قرارنا، ولا نملك سيادة بلادنا حتى يمكن لنا تقرير مصيرنا، ولا نملك حرية عقولنا حتى نقدر على الخيار الاستراتيجي لحياتنا، ولا نملك قراءة شاملة للحياة حتى يمكن لنا رؤية الحياة كما هي.
في منطقتنا صراع وجودي بين الحاكم والشعب، فالحاكم يعمل في تخذير الناس حتى لا يفكروا بشكل صحيح، والشعب يبحث عن لقمة العيش، فلا يمكن له التفكير في السياسة، يستيقظ الواحد منهم في الصباح، وهو لا يدرى ماذا سيأكل اليوم؟ وكيف يجد قوت يومه؟ ويكون تائها من أين؟ وكيف؟ فيخرج يبحث عن اللقمة في جيوب الناس الذين يملكون شيئا، وهذا الذى يملك شيئا من الدنيا يخرج من منزله باحثا عن إنسان آخر أفضل منه مكانة ومنزلة، وهكذا يبحث الجميع عن اللقمة التي صارت أندر من الماس، واللقمة في منزل الملك الذي خطط، وما زال يخطط في تخذير الشعب (بالقات) حينا، و(بالفقر) حينا آخر.
في بلادنا فقر فكري غير عادي، والسبب هو انعدام المثقف الحقيقي الذي يبحث عن منابع الفقر الفكري، والمثقف لم يولد بعد، وحين يبدأ مثقف في الحركة يقتل، بل ويخطط الحاكم أن لا يولد مثقف حقيقي، لأنه خطير على الكرسي، يجب أن يموت، أو أن يرحل، أو أن يتم تشويهه، فالمثقف الحقيقي هو الذى يعرف من أين جاء الفقر؟ ولماذا؟ وكيف نخرج منه؟ ولكن هناك مثقف مزوّر، فهو الذى يبحث المشكلة في التاريخ، وليس في الحاضر، أو يبحث عنها في النصوص دون تفعيلها وتنزيلها في الواقع المعاش، وليس في المشاريع، فالمثقف المزوّر ينوّم الناس، ويعطيهم حبوبا منوّمة، أو قاتلة، ويتحدث لهم عن فضيلة الفقر، وليس عن مشكلة الفقر، ويعلّم الناس الصبر، ولا يعلمهم الحكمة في الخروج من الفقر بأنواعه.
في بلادنا وعاظ يتكلون بلا تكلفة، يقولون ما يشاءون، ويخطبون كما يريدون، ولكنهم لا يتكلمون عن الواقع كما هو، يتحدثون عن الماضي ويبكون حبا له،، وحين يأتون إلى الواقع، لا يجيدون سوى الكلام المعسول، ليس في كلامهم التحليل، وليس في كلامهم البحث عن أسباب التخلف، يأمرون أصحاب الأموال أن يرحموا للناس فقط، ولكن لا يبحثون عن مصادر أموالهم، وعن شرعية تجارتهم، وعن الرشى التي تقدم للحاكم بلا حساب، إنهم من نوع آخر من المثقفين.
في وطننا جماعات كثيرة تمتهن الدين حرفة، وليس لكثير من هؤلاء حرقة، فالحرفة عمل، والحرقة رسالة، فالعمل بحاجة إلى أجر دنيوي، لأنه حرفة، والحرقة بحاجة إلى قوة دافقة داخلية، ومن هنا ينتهي عمل الوعاظ بسرعة، ولا يخرج تأثيره من المسجد، ويبقى أثره في المتشابهين، بينما صاحب الحرقة يرسل رسائله إلى الناس، فتجد طريقها نحو القلوب والعقول، وتعبر الحدود والقارات بدون استئذان، ولكن الحاكم يخاف من صاحب الحرقة، ولا يعطي أهمية لصاحب الحرفة.
في بلادنا تنتهي المشاريع الدينية عند المؤسسات، قد يختفي التدين في الحكم بلا عودة، فيصبح مطية للحاكم، وقد يختفي عند المؤسسات المالية، فيصبح التدين شكلا لا مضمونا، وجمعا للمال، لا توظيفا له، واستخداما للدين، لا خدمة له، ومن هنا، يصبح كل شيء في بلادنا عند الناس سائلا بلا قيمة، والغريب أن الدعوة تغيرت كثيرا، وتراجعت أكثر، والسبب هو أن المشاريع الدينية تحولت من عالم الحرقة إلى عالم الحرفة.
إن العلمانية غيرت المسجد، وجعلته قريبا من الكنيسة، فصاحب المسجد يفكر كيف يجمع مالا؟ ولا يخطط كيف ينقذ الناس من النار؟ ويخطط كيف يبقى إمامًا أبديا، ولا يخطط كيف يبنى جيلا يرث الدين منه؟ ويعمل كيف يصنع لنفسه (عصبية) تدافع عنه، ولا يعمل كيف يصنع عصبية فكرية لدين الله؟ فالحاكم في المسجد يمثل وجها آخر للحاكم في الوطن، هما وجهان لعملة واحدة، يلعن العلمانية في المنبر، ويستخدمها في حياته، إنه التناقض بلا حياء.
رحم الله المفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور عبد الرهاب المسيري حين تحدث عن علمنة المسجد سابقا، وعن علمنة الأسرة، وعن علمنة الفن، فكل شيء في بلادنا، وعند أهلنا قابل للسيولة، فهل يمكن أن نفهم اليوم كيف نهاجر من هذا الواقع؟ نحن نعيش في (رجز) فكري شامل، والقرآن ذكر في بدايات التنزيل قوله تعالى (والرّجز فاهجر)، والسؤال، كيف يمكن لنا أن نهجر من عالم (الموت الحضاري) إلى عالم التساؤل الحضاري؟ هنا المشكلة، الناس يعيشون في موت حضاري شامل، ولكنهم لا يعرفون، ومع هذا يعيشون في الوهم، ويحسبون أنهم على شيئ، وهم بذلك في ضلال مبين.
إن الذين يتاجرون بالقات يقتلون المستقبل، والأنظمة السياسية التي تسمح بهذه الأنواع من التجارة تحكم على البلاد التخلف الأبدي، والعلماء الذين يصمتون، ولا يتكلمون عن هذا الواقع، فهم شركاء في الجريمة، والمثقف الذي لا يحارب تلك الجريمة فهو أيضا يزوّر التاريخ، وهناك شعب كامل في القرن الأفريقي يذهب نحو العدم بإرادته، ولكنها إرادة مغشوشة، وهناك أنظمة سياسية تلعب في النار، لأنها توظف شطارتها اليومية في الحكم، ولكنها تعدّ للوطن الاحتلال الأجنبي وهي تدرى، أو لا تدرى، ومن هنا نقرر بأننا لسنا مخدرين فقط، بل نحن في حكم الموت الحضاري.
إن الخروج من الموت الحضاري ليس سهلا، ولكنه ليس مستحيلا، ولهذا، ذكر كتاب الله (البعث) الرسالي، فالبعث عملية إحيائية، كما أن الله يبعث من في القبور في يوم القيامة للحساب، كذلك بعث الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام ليحيي أمة من الرقاد، ومن الموت الحضاري (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم)، فالبعث الرسالي عملية إحيائية للناس، ولكن هذه المهمة بحاجة إلى رجال من أولى العزم.
لا ينفع عمل خيري في أمة ماتت حضاريا، وخرجت من التاريخ، ومن فعل التاريخ، فالأمة اليوم في القرن الأفريقي لا تعيش في هامش التاريخ كما يقول بعضنا، بل هي في خارج التاريخ، بل هي في حكم الموت التاريخي، ولهذا فهي بحاجة إلى عملية بعث، وليس فقط إلى العبور من عالم التخلف إلى عالم التحضر، بل هي بحاجة إلى إخراجها من عالم الغيبوبة إلى عالم الشهود، وهذه بحاجة إلى جهود جبارة تبدأ من عالم الفكر والروح، وليس من عالم التسول وجمع الصدقات، لأن هذه تصنع التخدير، ولا تقدم الحلول.