جهاد عدلة يكتب: إيران.. تنحية العاطفة أو حتمية التمزق السني

هناك اتجاه صاعد وسط النخب الإسلامية يظن أصحابه أنهم، بخطابهم عن محور إيران، يرممون صفوف المسلمين لصد أعتى وأخطر مشروع يدهم المنطقة العربية.
والتدقيق في منطوق كلام هؤلاء الإخوة، يرسم لنا ملامح تضخم الأنا عندهم، بسبب تشبعهم الإعلامي، وكثرة متابعيهم، وغزارة الثناء عليهم، واستسلامهم لكلمات المديح والثناء، وصولا إلى مرحلة إعجاب كل ذي شهرة منهم برأيه، ويدلل على ذلك نعت مخالفيهم بالجهل، وبغياب العقل، وبالغباء، فيما يبدو علامةَ اعتلال في القلب.
وليست الشهرة عيبا أو نقمة ابتداء، بل نعمة إذا رُشِّد استثمارها، فقد أطبقت شهرة كثير من علماء سلفنا الآفاق، ومع ذلك رفض الأئمة الأربعة وابن تيمية والأوزاعي والليثي، وغيرهم كثير، أن يحتكر الصواب في قولهم، ولم يؤثر عنهم تنقص مخالفيهم، وابن تيمية الذي فاق كل البشر في عصره علما وعقلا وأثرا، بتقرير مؤرخين وباحثين مسلمين ومستشرقين، كثيرا ما أثنى على مخالفيه وتلطف بالعبارة معهم وأنصفهم، وفعل ذلك حتى مع غلاة الصوفية الذين كان فريق منهم وراء حبسه.
الاختلاف بين أصحابنا اليوم وبين مشاهير السلف، والقياس مع الفارق الكبير، هو في الأصالة العلمية أولا، وفي التجرد، وهو الأهم، ثانيا.
الواضح أن الموقف من ممارسة محور إيران، مبني عند كثير من هذه النخب على العاطفة، والعاطفة الآنية تحديدا، لأن مطلق العاطفة يقودهم إلى استذكار فظائع محور إيران في الشام والعراق، وهم يدركون تماما أن ما تفعله إسرائيل في غزة اليوم، متواضع جدا مقارنة بمخازي محور إيران في بلاد العرب وخصوصا الشام.
إذا كانت خطورة إيران تمس جوهر الإسلام، لامتلاكها وسائل النفاذ إلى نواة الدين وإيذاء عقائد المسلمين، بما لا يستطيعه الصهاينة، وإذا كانت إيران عبر أذرعها، أشد بطشا وقسوة وانتهاكا للمسلمين ومقدساتهم وأعراضهم، من الصهاينة، فأي منطق أو عقل، حينذاك، يعيننا على استيعاب فكرة رص الصفوف في مواجهة المشروع الصهيوني؟! نجتمع معهم علام؟ وما أساس الاجتماع؟ ومن أجل أن ندفع عن أنفسنا ماذا؟!
كل ما تخشاه هذه النخب من تمدد الصهاينة، فعلته إيران وأذرعها الذين مزقوا منطقتنا ونسيجها الاجتماعي والنفسي، شر ممزق، وتركوا ندوبا في الأنفس لا يُدرى إن كانت قابلة للعلاج من عدمه.
نجد أنفسنا اليوم أمام مزيج مؤذ من الإعجاب بالنفس، وطغيان العاطفة، يُشَكِّل خطابَ كثير من الناس، وهذا يثير في نفسي ذكرى حوار مع أخ تركي متدين بعمق، وملم بأحوال المنطقة العربية عمومها، والشام والعراق والجزيرة تحديدا، بقدر يفوق ما يعرفه الأكثرية الساحقة من العرب عن منطقتهم، قال لي فيه قبل نحو ثماني سنين: (يقول الأتراك: «العرب قلوبهم كبيرة وعقولهم صغيرة»)، ويعنون أن العرب يهرولون وراء عاطفتهم، ويمكن خداعهم بسهولة.
يبدو لي أن الشهرة أصابت كثيرا من الناس في مقتل، وأدخلتهم في غفلة عن الاعتبار بدروس ما حصل في التاريخ، وفي الأعوام الخمس عشرة الأخيرة، وفي ظني أن من أهمها يجب أن يكون: إهمال العاطفة في مقاربة الشأن العربي والإسلامي العام، والخضوع لمنطق نقدي ومهني صارم.
أقول هذا وأنا موقن بأن كثيرا ممن في المعسكر الآخر، المشكك بدور إيران والواقف على ثغور المواجهة معها، إنما يفعلون ذلك لدوافع شعورية وثأرية مرتبطة ببلدانهم، وليس عن إبصار حقيقي وعميق لماهية ما تفعله إيران وأبعاده المركبة عقديا وتاريخيا وسياسيا وقوميا، ونتائجه ما وراء القطرية والحزبية والعشائرية، وإلا فبم نفهم حالة إنكار الواقع التي يعيشونها من عدم الاعتراف بوجود صراع بين المشروعين الصهيوني والصفوي، واعتباره مسرحية؟!
والواقع أن انحصار ممانعة إيران ومواجهة مشروعها، في دوافع عاطفية، لا يثير شعورا بالارتياح، بسبب إمكانية توجيه هذه الطاقة الشعورية السلبية، من قبل جهة ثالثة، بما يضر بإيران ولا ينفع العرب.
لو أن كلا الفريقين الغارقين في أوحال العاطفة، إلا من رحم الله، يتخفف من أحمال مشاعره، لنجونا جميعا من تبعات هذا الانقياد العاطفي مستقبلا، ولاقترب الجميع بعضهم من بعض، على أسس صحيحة، بدلا من حالة الاستقطاب الحاد الراهن، الذي قد يقود إلى تصدع فكري عميق في صفوف المعسكر السني، يلوح في أفقِ استمرار المشروع الإيراني برعاية وقيادة ورؤية واضحة، واستمرار حالة الفوضى في عالم سني عار من الرؤية والقيادة والرعاية.