أقلام حرة

افتتان أحمد يكتب: أخاديد السنين

تمر تجاعيد السنين، تحفر في الأيادي أخاديد. تلك اليد التي صاحبتنا منذ ولادتنا، مقبوضة تخاف من الدنيا وفتنتها. تُبسط اليد رويدًا رويدًا على الحياة، ترتعش وتخاف، ينتفض كفها؛ فيسكنها حنين أمها وراحتي أبويها.

تنطلق إلى المدرسة، تُنشد: (خنصر، بنصر، وسطى، سبابة، إبهام). تلبس خاتمها الذهبي وتتيه فرحاً بين الأصحاب. تتعلم الوضوء؛ فيشع النور في الأطراف. تتوسد الخد الأيمن ليلاً وتسمع أذكار النوم. تمسح على الخفين في الليالي الباردة. تتعلم الصلوات، نتوكأ عليها حال القيام والقعود في الركعات والسجدات. تعقد التسبيح بالأنامل في ختام الصلوات.

عن يسيرة بنت ياسر قالت: (قالَ لنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عليكنَّ بالتَّسبيحِ والتَّهليلِ والتَّقديسِ واعقِدنَ بالأناملِ فإنَّهنَّ مسؤولاتٌ مستنطقاتٌ ولا تغفلنَ فتنسينَ الرَّحمةَ) أخرجه الترمذي.

تتعلم الكتابة؛ فتكتب النافع المفيد في كل وقت وحين. تساعد الأهل في تحضير الإفطار وتنظيف الصحون. تنقش العجين وتعبئ البيت برائحة الخَبْز. يد فُطرت على البراءة وأكل الحلال باليمين.

تكبر! تكبر اليد. واليد نعمة يجب أن تصونها عن فعل القبيح، عن الكبائر والمظالم والظلمات، عن السرقة؛ فقد قال الحبيب: “….وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” البخاري. تبعد عن البطش، عن أكل الحرام، عن الآثام والخطايا وكل ما يشين.

واليد نعمة؛ فلتكن يدك هي العليا، واليد العليا خير من السفلى. واليد نعمة؛ فلتكن هي العاملة الكادحة التي يحبها الله ورسوله. واليد نعمة؛ فلتصافح أخواتها فيتحات عنهم خطاياهم كما يتحات ورق الشجر.

قال صلى الله عليه وسلم: “إن المسلم إذا صافح أخاه، تحاتت خطاياهما، كما يتحات ورق الشجر” رواه البزار، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

تشهد اليد وتنطق عما اقترفته من أعمال في الحيوات، قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} النور.

يشهد الله إنك كنت طاهرة عفيفة، باسطة الأنامل في الطاعات، قابضة عن الحرمات. تضعف اليد، وتنفر الأوردة، وترتعش الأطراف؛ ولكنها تقوى في الحق وفي الإشارة للظلمات. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اتقوا الظلم إن الظلم ظلمات يوم القيامة” رواه مسلم.

يخط الزمن خطوط وأخاديد من الصبر والمثابرة. يد حكيمة لا تغيرها الشدائد ولا تبدلها الأيام، تمسح على الضعفاء واليتامى والمساكين، تُرقي الأولاد والأحفاد وتمسح عليهم، ترفع الدعوات وتناجي الرب في الأسحار؛ فيقابلها الكريم بالجود والإحسان. تمسح الوجوه؛ فتنتشي وتنتعش بعد قشعريرة الخشوع وبكاء الأسحار.

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر.

تلك اليد التي صاحبتنا، تذكرنا مع مرور السنين بهادم اللذات؛ فنمسح بها سكرات الموت كالحبيب، كما مسحنا بها سكرات الشهوات من سجل الأعمال. روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما حضرته الوفاة، كان بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده”.

فاللهم توبة نصوحة قبل الممات، نرفع الكف إليك بالدعاء والابتهال، وقد وقفنا علي بابك ولذنا بجنابك، فلا تردنا خائبين، ولا تُعدنا محرومين، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وتُب علينا يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى