“الحلاج”.. بين “ابن تيمية” و”صلاح عبد الصبور”
(هذا زمنُ الحقِ الضائعْ
لا يعرفُ فيهِ مقتولٌ مَـن قاتلهُ ومتى قتله؟!
ورؤوسُ الناسِ على جثثِ الحيواناتْ
ورؤوسُ الحيواناتِ على جثثِ الناسْ
فتحسّس رأسك
فتحسّس رأسك!)
– هكذا أبدع الشاعر “صلاح عبد الصبور” في مسرحيته الشعرية: “مأساة الحلاج”
– ظهرت عشرات الكتب التي تدافع عن الحلاج، وتبرر له، وتراه المفكر الذي لا يُبارى، وتأتي المسرحية الشعرية: مأساة الحلاج، للشاعر صلاح عبد الصبور، في المقدمة.. وقد شاهدتُها مرتين، في مسرح الطليعة بالقاهرة، سنة 2000م، وكنا مجموعة شعراء من (صالون حلمية الزيتون الثقافي)
– جلسنا مع بطل المسرحية الراحل محمود مسعود، بعد انتهاء العرض، وكان متمكنا من لغته، رائع الحفظ، عملاق الأداء.. وقلتُ له وقتها: باحسدك على قوة حفظك وذاكرتك، رغم اختلافنا حول الشخصية، فقال لي بالحرف:(تعامل معه كعمل فني لتستمتع به، وليس سردا…)
– مسرحية (مأساة الحلاج) من أروع المسرحيات الشعرية، بعيدا عن القصة الحقيقية للحلاج، وعصره، ودور الفن المرعب في التبغيض أو التحبيب، لموضوع أو شخصية.
(أبو الْمغيث الحُسِّين بن مَنْصور الحَلاَّج)
الميلاد: 9 نوفمبر 858م، بلاد فارس (إيران)
الوفاة: 26 مارس 922م، بغداد، العراق.
– الحسين بن منصور، الملقب بالحلاج، يعتبر من أكثر الرجال الذين اختُلفَ في أمرهم
– كان الحلاج من أصلٍ فارسي، عاش ومات في العراق،
وكانت المنطقة الجنوبية الغربية من بلاد فارس أيام خضوعها للدولة العباسية لا تزال تدين بالزارادشتية وتعتنق ثقافتها على الرغم من انتشار اعتناق الإسلام آنذاك، فكان جِد الحلاج زارادشتيًا واعتنق والده الإسلام.
– كان والده يعمل في حلج القطن، فسميَ بالحلاج، وهي مهنةٌ كان الابن يمتهنها من وقتٍ لآخر.
– تنقّلَ منصور الأب، إلى المدن الشهيرة بصناعة الأقمشة، مثل الأحواز، وتستر، واستقر به المقام في مدينة واسط، جنوبي العراق.
– أمضى “الحلّاج” فترة شبابه في مدينة واسط العراقية، التي كانت تعتبر معقل الفكر السني، وتعلم فيها على المذهب الحنبلي، وتشير بعض الدراسات إلى أنه عربيًا كاملًا، ولكنه احتفظ ببعض الموروث الفارسي من طفولته الذي نظمه لاحقًا بالعربية.
– لم يعتنق الحلاج التصوف حتى انتقل إلى البصرة، حيث لبس الخرقة التي أصبحت تميّز المتصوفة،
– كان تصوّف الحلاج أكثر تعقيدًا من أي تصوفٍ تقليدي آخر، وأي تنسّكٍ آخر،
رحل إلى بلاد كثيرة، منها مكة وخراسان، والهند وتعلم السحر بها، وأقام أخيرًا ببغداد، وبها قتل.
– تعلّمَ السِّحر بالهند، وكان صاحب حيَل وخداع، فخدع بذلك كثيرًا من جهلة الناس، واستمالهم إليه، حتى ظنوا فيه أنه من أولياء الله الكبار .
– قُتلَ في بغداد بسبب ما ثبت عنه من الكفر والزندقة.
وأجمع علماء عصره على قتله بسبب ما نُقلَ عنه من الكفر والزندقة.
1- ادّعى النبوّة، ثم تَرَقَّى به الحال أن ادّعى أنه هو الله. فكان يقول: أنا الله، وأمر زوجة ابنه بالسجود له، فقالت: أو يُسجَد لغير الله؟ فقال: إله في السماء، وإله في الأرض.
2- كان يقول بالحلول والاتحاد..أي: أن الله تعالى قد حَلَّ فيه، وصار هو والله شيئًا واحدًا.. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
3- من أشعاره:
عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدا/
وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوه/
4- له كلام يبطل به أركان الإسلام
5- كان يقول: إن أرواح الأنبياء أعيدت إلى أجساد أصحابه وتلامذته، فكان يقول لأحدهم: أنت نوح، ولآخر: أنت موسى، ولآخر: أنت محمد.
6- لمّا ذُهبَ به إلى القتل قال لأصحابه: لا يهولنكم هذا، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يومًا، فقتلَ ولم يَعُدْ.
فلهذه الأقوال وغيرها أجمع علماء عصره على كفره وزندقته ولذلك قتلوه، وتبرّأ منه معظم الصوفيين ونفوا أن يكون منهم،
– قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قُتلَ الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد كقوله: أنا الله، وقوله: إله في السماء وإله في الأرض .. والحلاج كانت لهُ مخاريق وأنواع من السحر، ولهُ كتب منسوبة إليه في السحر.)
فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحـادهِ به، وإن البشر يكون إلهًا، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قُتلَ الحلاج.
ومن قال:
إن الله نطق على لسان الحلاج، وإن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه: أنـا الله، فهو كافر باتفاق المسلمين، فإن الله لا يحل في البشر، ولا تكلم على لسان بشر.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(وما يُحكى عن الحلاج من ظهور كرامات لهُ عند قتلهِ، مثل كتابة دمهِ على الأرض: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتلِ أو نحو ذلك، فكلهُ كذب، فقد جمع المسلمون أخبـار الحلاج في مواضع كثيرة كما ذكر ثابت بن سفيان في أخبار الخلفاء – وقد شهد مقتله – وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني، وأبو الفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره.)
وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسـالته من المشايخ الذين عدّهم من مشايخ الطريق.
– قال ابن كثير: (لم يزل الناس منذ قتل الحلاج مختلفين في أمره.. فأما الفقهاء فحكي عن غير واحد من الأئمة إجماعهم على قتله وأنه كان كافرا ممخرقا مموّها مشعبذا، وكذلك قول أكثر الصوفية منهم. ومنهم طائفة كما تقدّم أجملوا القول فيه وغرّهم ظاهره ولم يطلعوا على باطنه، وقد كان في ابتداء أمره فيه تعبد وتأله وسلوك، ولكن لم يكن له علم يسلك به في عبادته، فدخل عليه الداخل بسبب ذلك، كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وعن سفيان بن عيينة أنه قال: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. ولهذا دخل على الحلاج باب الحلول والاتحاد فصار من أهل الانحلال والإلحاد)
– وما نعلم أحدا من أئمة المسلمين ذكرَ الحلاج بخير، لا من العلمـاء، ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يدافعون عنه لمجرد العناد، ومساندة وتأييد كل من يتطاول على الإسلام، مثل معظم الشعراء والكتّاب والمؤرّخين في كل زمان.. فأغلبهم جُبلَ على التمرّد، والعصيان، وينطبق عليهم قول الله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).. 85 سورة البقرة.
ورغم كل ذلك لا نملك أن نقول إلا: (اللهُ أعلم)
………..
المصادر:
– طبقات الصوفية – أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري
– الوافي بالوفيات – الصفدي
– سير أعلام النبلاء للذهبي
– البداية والنهاية لـ ابن كثير
– تاريخ بغداد للخطيب البغدادي
– المنتظم لـ ابن الجوزي
– شطحات الصوفية، – د. عبد الرحمن بدوي
—————
يسري الخطيب