مقالات

السفير معصوم مرزوق يكتب: مفترق طرق

في اول سبتمبر ٢٠١٦، عندما وقفت بسيارتي أمام بوابة الجامعة أرقب ابنتي وهي تدلف إلي داخل الجامعة في خطواتها الجامعية الأولي، وفي سبتمبر هذا العام تخرجت بتفوق بحمد الله، وجلست أحكي لها أن ذلك مجرد مفترق طرق، واستدعي ذلك في ذاكرتي مواقف مشابهة في حياتي، وقفت فيها مرات عديدة في مفترق طرق، وكان واجباً عليّ أن أختار، وأعلم جيداً صعوبة هذه المواقف وآلامها، حيث كنت أفكر وقتها أن خطوة واحدة خاطئة قد تعني ضياع مستقبلي كله! وقد تطلب الأمر سنوات من التجارب حتى أدرك أن الفشل إنما هو للإنسان الجاد مجرد قفزة في اتجاه النجاح لكنها أخفقت، ولا بأس من تكرار المحاولة.

لقد كنت محظوظاً في حياتي بأن أتاح الله لي أن أسلك طرقاً متعددة، وأنال في كل منها نصيباً معقولاً من التوفيق، فعندما نشبت حرب الاستنزاف عام 1969، كنت طالباً مستجداً في كلية الهندسة جامعة عين شمس، وبعد أن أمضيت العام الأول الإعدادي، شعرت، مثلما شعر الآلاف من أقراني في ذلك الوقت بأن مكاننا الطبيعي كشباب مصر ينبغي أن يكون في الجبهة، وكان ذلك أهم وأخطر مفترق طريق مررت به وكان الاختيار صعباً، ولكنني اخترت..

وسحبت أوراقي من كلية الهندسة وتقدمت إلى الكلية الحربية، وأصبحت ضابطاً في قوات الصاعقة، وتحقق حلمي في المشاركة في العبور وتحرير أرض بلادي وحصلت علي وسام الشجاعة من الطبقة الأولي.

لم تمر سنوات قليلة بعد الحرب إلا وأصبحت في مواجهة مفترق طريق آخر لأسباب ليس الآن محل الحديث عنها، حين أعلنت وزارة الخارجية عن مسابقة لالتحاق دبلوماسيين جدد بها، وتقدمت إلى المسابقة، واجتزتها بتفوق في الاختبار التحريري والشفوي كي يصدر قرار بتعييني دبلوماسياً في وزارة الخارجية، وحينها أيضاً وقفت حائراً في مفترق طرق ما بين حياة الجندية ورفقة السلاح التي عشقتها، وما بين وعد بطريق أدافع فيه عن قضايا بلادي بالطرق السلمية، ويتيح لي انفتاح أكبر علي العالم.

وأعترف لكم أن الاختيار كان صعباً ومرهقاً، أستغرق مني أيام متواصلة بلا نوم في التفكير.. إلي أن هداني الله إلي البدء في العمل بوزارة الخارجية، وهي الرحلة التي استغرقت عمري كله تقريباً، وحملت مواقف عديدة وتحديات متنوعة، ربما تحين فرصة للحديث عنها بتفصيل ذات يوم.

ليس هذا فحسب، بل أنني أيضاً عضو في اتحاد كتاب مصر، وأصدرت حتى الآن خمسة كتب، وأكتب مقالات بانتظام منذ ما يزيد علي أربعين عاماً في صحف ومجلات عربية ومصرية، فضلاً عن أنني حرصت على دراسة القانون وحصلت على الليسانس ودبلومة دراسات عليا مع دراسات قانونية حرة في الخارج، بما أتاح لي اليوم بعد المعاش أن أقيد في نقابة المحامين، وأن أترافع في بعض القضايا الهامة مثل تيران وصنافير.

هل أحدثكم عن الحرب ومعجزة العبور؟، أم عن الدبلوماسية كفن وعلم هام؟ أم عن الأدب أو القانون.

لقد اخترت، واستأذنكم في الموافقة أن أتحدث عن الدبلوماسية، فهي مهنتي لمدة تزيد على خمسة وثلاثين عاماً حملتني تقريباً إلى أغلب دول العالم منذ أن بدأت دبلوماسياً شاباً إلى أن أختمت حياتي الوظيفية سفيراً ومساعداً لوزير الخارجية.

يظن البعض أن الدبلوماسية مهنة سهلة، لا تزيد عن حفلات ورحلات، ويقول البعض أنها مهنة الكذب الأنيق، بينما يراها آخرون بأنها المهنة التي يجب لمن يمارسها أن تكون لديه القدرة على إقناع خصمه بأن يتجرع السم وهو سعيد شكور.

أستطيع أن أؤكد لكم، وباختصار، أنها قد تكون كل ما سبق، لكنها كما عرفتها هي مهنة شاقة قاسية..

ولكي نقتر ب من أهم خصائصها، يجب أن أشير إلى بعض ميادينها الهامة:

فهي القدرة على التنبؤ الصحيح بالصراعات المتوقعة Conflict Prediction

وهي القدرة على العمل السريع لمنع الأزمات Conflict Prevention

وهي القدرة على الإدارة الجيدة لمرحلة الصراع Conflict Management

وهي القدرة على الإسهام في إيجاد الحلول للصراع بعد نشوبه Conflict Resolution

ثم هي القدرة فيما بعد على الإسهام في ترتيبات ما بعد وقوع النزاع Post-conflict Resolution

وكل مرحلة من هذه المراحل لها أدواتها اللازمة التي قد نتناولها في مقالات قادمة.. إلا أنه يمكن بشكل عام أن نشير إلى سمات عامة لهذه الأدوات في كل المراحل:

حيث يجب دائماً السعي للحصول على المعلومات الصحيحة، والتحليل الدقيق لها..

أهمية التواصل والاتصال المستمر مع الخارج خلال كل هذه المراحل..

اكتساب المهارات اللازمة للتفاوض الثنائي أو المتعدد من خلال المؤسسات الدولية الإقليمية والعالمية..

الإلمام بشكل كامل بالموقف القانوني للدولة في كل مرحلة، وإعداد البدائل القابلة للتغيير وفقاً لتغيرات الموقف أو ما يمكن أن نطلق عليه «مرونة التحرك»، فعلي سبيل المثال قد يكون القبول بوقف إطلاق النار مصلحة في مرحلة من تطورات النزاع، إلا أنه قد لا يكون مقبولاً في مراحل أخرى، وذلك يقتضي أيضاً دراسة احتمالات التسوية من حيث الموازنة الدقيقة والموضوعية لنقاط القوة والضعف في موقفي وموقف خصمي..

ومن الأدوات الهامة أيضاً، الوساطة، والمساعي الحميدة والتحكيم ومحكمة العدل الدولية …

كل هذه الأدوات تتطلب أن يتوفر في الدبلوماسي خصائص معينة منها: الذكاء / الثبات الانفعالي / التمكن من لغات أجنبية / ثقافة عامة / القانون الدولي / الاقتصاد / الجغرافيا السياسية..

أتصور أنني وصلت الآن إلى مفترق طرق في هذا المقال، فقد انتهت المساحة، ولا يزال لدي الكثير مما أريد الحديث عنه.

ربما يشاء الله أن أستكمل ذلك، إذا كان لا يزال في العمر بقية.

معصوم مرزوق

مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights