الأمة الرياضيتقارير

تقرير: نادي بالستينو.. يجسد هوية فلسطين التي تنبض بالمقاومة في تشيلي

تقرير: نادي بالستينو.. هوية فلسطين التي تنبض بالمقاومة في تشيلي
تقرير: نادي بالستينو.. هوية فلسطين التي تنبض بالمقاومة في تشيلي

شهدت خمسينيات القرن التاسع عشر موجات هجرة كبيرة من العرب، خاصة الفلسطينيين، نتيجة للحروب والنزاعات في المنطقة، بدءًا من حرب القرم بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية، مرورًا بالاستعمار والصراعات الإقليمية، وصولًا إلى الحرب العالمية الثانية.

هذه الأحداث دفعت الآلاف إلى البحث عن أوطان جديدة، وكان لأمريكا الجنوبية نصيب كبير من هذه الهجرات.

على مدار التاريخ، لمعت العديد من الأسماء العربية في القارة اللاتينية، من بينها الشاعر اللبناني خليل جبران الذي انتقل إلى نيويورك عام 1895، ورجل الأعمال المكسيكي من أصول لبنانية كارلوس سليم، الذي أصبح أحد أغنى أثرياء العالم في 2013. كذلك، شهدت الرياضة حضورًا بارزًا للجاليات المهاجرة، مثل نادي بوكا جونيورز الأرجنتيني، الذي يرتبط بالمهاجرين من مدينة جنوى الإيطالية، ونيويلز أولد بويز، الذي يعود اسمه إلى المهاجر الإنجليزي إسحاق نيويل.

وفي ظل موجات الهجرة، وجد نحو 500 ألف فلسطيني، معظمهم من رجال الأعمال والمزارعين، في تشيلي ملاذًا جديدًا، لتصبح البلاد أكبر موطن للشتات الفلسطيني خارج الشرق الأوسط. كانت رحلتهم شاقة، إذ عبروا المحيط الأطلسي إلى بوينس آيرس، ثم اجتازوا جبال الأنديز للوصول إلى العاصمة سانتياجو، حيث أُطلق عليهم لقب “التركوس” نسبةً إلى أصولهم العثمانية.

ومن قلب هذا الشتات، وُلد نادي بالستينو، الذي تأسس في 25 مارس 1916 على يد 68 عضوًا بارزًا، من بينهم سالومون أهويس، خورخي حلبي، إلياس لاما، بنديكتو شواكي، نيكولاس سافي، ميغيل سافي، وخوان ديك. لم يكن النادي مجرد فريق رياضي، بل أصبح رمزًا لفلسطين في القارة اللاتينية، بألوانه التي تحمل روح الوطن وصموده.

في 20 أغسطس 1920، شهدت سانتياجو تأسيس نادي بالستينو الرياضي، ليصبح أول نادٍ يمثل المجتمع الفلسطيني المتنامي في تشيلي، وأول نادٍ على مستوى العالم يؤسَّس من قِبل اللاجئين، مستمدًا اسمه من جذوره الفلسطينية.

يحمل النادي في شعاره وألوانه رمزية عميقة، حيث تتزين قمصانه بألوان العلم الفلسطيني: الأحمر، الأخضر، الأبيض، والأسود. وليس من المستغرب أن تجد الكوفية الفلسطينية حاضرة في ملعب بلدية لا سيستيرنا، حيث يتجمع المشجعون ليؤكدوا أن بالستينو ليس مجرد فريق كرة قدم، بل هو صوت للقضية الفلسطينية في ملاعب أمريكا الجنوبية.
بعد 32 عامًا من اللعب في دوريات الهواة، حصل الفريق على فرصة المشاركة في دوري الدرجة الثانية عام 1952، مع بدء تنظيم البطولات الاحترافية.

لم يضيع النادي الفرصة، فحقق اللقب على الفور وصعد مباشرة إلى دوري الدرجة الأولى، حيث نجح في احتلال مركز الوصافة في موسمه الأول.

بفضل قدرته المالية على استقطاب أبرز اللاعبين، سرعان ما اكتسب النادي لقب “مليوناريوس” أو “أصحاب الملايين”، ليصبح منافسًا قويًا على الساحة الكروية التشيلية.

وفي عام 1955، أثبت نفسه بقوة عندما توّج بلقب دوري الدرجة الأولى، ليبدأ تحديًا جديدًا ضد العملاق التشيلي “كولو كولو”، رغم التحديات والسخرية التي واجهها في بداياته.

عانى الفريق من غياب طويل عن منصات التتويج استمر 20 عامًا، حتى شهدت صفوفه انضمام إلياس فيجيروا، أحد أعظم لاعبي كرة القدم التشيلية.

جاء انتقاله إلى بالستينو بعد تجربة ناجحة مع إنترناسيونال البرازيلي، مدفوعًا برغبة زوجته في العودة إلى الوطن، ليبدأ النادي مرحلة جديدة من تاريخه.

تحت قيادة إلياس فيجيروا، أحد أعظم لاعبي خط الوسط الدفاعي، استعاد بالستينو قوته وهيبته في الكرة التشيلية. ففي يوليو 1977، بدأ الفريق سلسلة مذهلة من 44 مباراة دون هزيمة، استمرت حتى سبتمبر 1978، وهو رقم قياسي لم يُكسر حتى الآن في تشيلي.

خلال هذه الفترة، توج النادي بلقب كأس تشيلي عام 1977، ثم أتبعه بالفوز ببطولة الدوري التشيلي عام 1978.

لم يكن فيجيروا وحده في هذه المسيرة الناجحة، فقد سطع بجانبه نجوم بارزون مثل رودولفو دوبو، ومانويل روخاس، بالإضافة إلى المهاجم الأرجنتيني أوسكار فاباني، الذي حقق لقب هداف الدوري التشيلي ثلاث مرات متتالية بين 1976 و1978.

في عام 1979، شارك بالستينو للمرة الثالثة في تاريخه في بطولة كوبا ليبرتادوريس، حيث تألق في دور المجموعات محققًا أربعة انتصارات وتعادلين، مسجلًا 16 هدفًا مقابل استقبال هدفين فقط. لكن في المرحلة التالية، التي كانت بمثابة المربع الذهبي، اصطدم بفريقي أولمبيا الباراغوياني وجواراني البرازيلي، ليودع المنافسة بعدما احتل المركز الأخير في مجموعته، رغم تحقيقه أفضل إنجاز قاري في تاريخه.

فترات صعود وهبوط

مع بداية الثمانينيات، بدأ أداء الفريق في التراجع، حتى هبط إلى الدرجة الثانية عام 1988. لكن سرعان ما عاد إلى دوري الأضواء بعد عامين فقط، ليبدأ رحلة جديدة نحو المنافسة.

وفي عام 1998، تحت قيادة المدرب التشيلي مانويل بيليجريني، الذي أصبح لاحقًا مدربًا لريال مدريد ومانشستر سيتي، وصل الفريق إلى المربع الذهبي لكأس تشيلي.

وبعد عقد من الزمن، كاد الفريق يحقق لقب الدوري التشيلي، لكنه خسر نهائي مرحلة الكلاوسورا 2008 أمام كولو كولو، الذي كان يقوده آنذاك النجم لوكاس باريوس، لاعب بوروسيا دورتموند السابق.

العودة إلى الجذور الفلسطينية

رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بين تشيلي وفلسطين، والتي تمتد لأكثر من 8000 ميل، لم يكن من السهل على لاعبي بالستينو التعرف على أصولهم أو حتى التحدث باللغة العربية.

إضافة إلى ذلك، تسببت القيود المفروضة على التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة في صعوبة انضمام لاعبي النادي إلى المنتخب الفلسطيني، مما أدى إلى قلة تمثيلهم الدولي.

إلا أن نقطة التحول جاءت مع نيكولا شهوان، أحد أبناء الجالية الفلسطينية في تشيلي، الذي تولى تدريب المنتخب الفلسطيني عام 2002. لم يأتِ شهوان بمفرده، بل اصطحب معه مجموعة من اللاعبين التشيليين الذين منحهم الفيفا الحق في تمثيل فلسطين بفضل أصولهم العائلية.

ومن بين هؤلاء:

  • أليكسيس نورامبوينا
  • جوناثان كانتيلانا
  • دانييل كبير مصطفى
  • إدجاردو عبد الله
  • روبرتو بشارة
  • رودريجو جاتاس
  • ياشير إسلام
  • ماتياس جادو
  • ليوناردو زامورا
  • برونو بيسبي
  • بابلو تامبوريني

بفضل هذه المواهب، تمكن المنتخب الفلسطيني عام 2015 من الوصول إلى المركز 130 في تصنيف الفيفا، في إنجاز تاريخي يعكس مدى تأثير الجالية الفلسطينية في كرة القدم.

وتحدث روبرتو كاتلون، لاعب منتخب فلسطين السابق الذي ارتدى قميص بالستينو، عن تجربته مع النادي قائلًا لموقع Football Times: “لقد لعبت هنا لموسمين، كانت تجربة مذهلة على الصعيدين المهني والشخصي.

شعرت بالاقتراب أكثر من أصولي، كما أن تمثيلي للمنتخب الفلسطيني فتح لي الباب للانتقال إلى الدوري اليوناني.”

هكذا، لم يكن بالستينو مجرد نادٍ لكرة القدم، بل جسد رابطًا قويًا بين فلسطين والشتات، ليبقى اسمه رمزًا للهوية والنضال داخل المستطيل الأخضر وخارجه.
أكد روبرتو كاتلون، لاعب منتخب فلسطين السابق، أن دعم بالستينو للقضية الفلسطينية يتجاوز كونه مجرد نادٍ رياضي، قائلاً: “المشجعون هنا يعيشون انتماءً مزدوجًا، فبالرغم من أنها كرة قدم، إلا أن هناك بلدًا بأكمله يترقب انتصارات الفريق، بحثًا عن الفخر والسعادة لفلسطين.”

وعن مدى التزام النادي بالقضية الفلسطينية، أضاف: “نعم، خاصة مع الإدارة الحالية، فهم نشطون للغاية، شجعان في مواقفهم، ووطنيون إلى أقصى حد، حيث أصبحت القضية الفلسطينية جزءًا من انشغالهم اليومي.”

إلى جانب ذلك، شهدت الكرة التشيلية ظهور لاعبين من أصول فلسطينية مثل ماريو سالاس، لويس موسري، وإدواردو جازيل، الذين ارتدوا قميص منتخب “لا روخا” التشيلي.

الإنقاذ التاريخي من فلسطين

تعززت العلاقة بين بالستينو وفلسطين أكثر في عام 2003، عندما كان النادي يمر بأزمة مالية حادة كادت تؤدي إلى إفلاسه. حينها، أرسل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رسالة رسمية يناشد فيها مسؤولي النادي والمجتمع الفلسطيني في تشيلي بعدم السماح باختفاء هذا الكيان الرياضي الذي يحمل رمزية خاصة لفلسطين.

وتعليقًا على التأثير العميق للنادي، قال المعلق الإذاعي التشيلي سيباستيان مانريكيز: “بالستينو ليس مجرد نادٍ لكرة القدم في لا سيستيرنا، بل هو رمز لمجتمع يحظى باحترام واسع في تشيلي، إنه يمثل جذور المؤسسين وأجدادهم الذين جاؤوا من فلسطين، ويرتبط بشعب يعاني من عواقب صراع لا يكاد ينتهي في الشرق الأوسط.”

وأضاف: “على عكس أندية الشتات الأخرى في تشيلي، فإن مباريات بالستينو تُلعب بعقول على أرض الملعب وقلوب تنبض على بُعد آلاف الكيلومترات، حيث يتزايد عدد المشجعين الذين يدعمونه عن بُعد، رغم الألم والحزن الذي يعيشه الفلسطينيون يوميًا. لهذا، ليس من المستغرب أن تتحول مواجهات الفريق إلى مباريات شرسة وعنيفة.”

الرقم “1”.. عندما أصبح القميص رمزًا سياسيًا

لكن أبرز لحظة عززت ارتباط بالستينو بالقضية الفلسطينية عالميًا كانت في يناير 2014، عندما قرر النادي تصميم قمصان تحمل الرقم “1” على هيئة خريطة فلسطين لعام 1947، أي قبل قيام دولة إسرائيل. تحول هذا التصميم إلى رمز قوي للتضامن الفلسطيني، متجاوزًا المسافات الجغرافية، وأثار جدلًا واسعًا في الأوساط الرياضية والسياسية.

وفي مواجهة الانتقادات، جاء الرد حاسمًا من موريس خميس ماسو، رئيس الجالية الفلسطينية في تشيلي، الذي قال: “فلسطين ورموزها كانت موجودة في تشيلي منذ عام 1920، أي قبل 28 عامًا من قيام دولة إسرائيل. بالنسبة لنا، ستظل فلسطين الحرة هي فلسطين التاريخية، لا شيء آخر.”

بهذه المواقف، يواصل بالستينو إثبات أنه ليس مجرد فريق كرة قدم، بل صوت للقضية الفلسطينية في الملاعب اللاتينية، ورسالة تذكير مستمرة بتاريخ شعب لا يزال يناضل من أجل حقوقه.

بالستينو.. فريق يعبر عن فلسطين رغم الضغوط

رغم رمزيته القوية للقضية الفلسطينية، لم يسلم بالستينو من العقوبات، حيث فرض الاتحاد التشيلي لكرة القدم عليه غرامة مالية قدرها 1300 دولار، وأجبره على تغيير تصميم قميصه بعد تقديم شكوى من أليكس كيبليسكي، رئيس نادي شيليين روبلينس، الذي لعبت خلفيته اليهودية دورًا في إثارة الجدل حول القميص.

ورغم ذلك، اعترف كيبليسكي بقيمة بالستينو قائلاً: “لا يمكن إنكار أن هذا النادي لا مثيل له في الدوري. يدرك معظم مشجعي الكرة في تشيلي مساهمات الجالية الفلسطينية، والخلفية التاريخية التي يسعى النادي إلى تمثيلها.”

وأضاف: “على الرغم من أن بالستينو ليس من أكثر الفرق شعبية في المسابقات المحلية، فإن جماهيره تحظى باحترام وتأييد واسع في الكرة التشيلية، حتى من مشجعي منافسيهم التقليديين، مثل نادي يونيون إسبانيولا (الذي يمثل الشتات الإسباني) وأوداكس إيتاليانو (الذي يمثل الشتات الإيطالي).”

العودة إلى كوبا ليبرتادوريس بعد 36 عامًا

في نهاية الموسم، نجح الفريق في تحقيق إنجاز تاريخي بالعودة إلى بطولة كوبا ليبرتادوريس بعد غياب دام 36 عامًا، وذلك تحت قيادة المدير الفني الأرجنتيني بابلو جيدي.

وجاء التأهل بعد احتلال الفريق المركز الرابع في الدوري التشيلي، وتقديم كرة قدم جميلة نالت إعجاب الجماهير. تمكن بالستينو من تجاوز سانتياجو واندررز في التصفيات المؤهلة للمسابقة القارية، بفوز 3-1 ذهابًا و6-1 إيابًا.

ومع تزايد قوة الروابط بين النادي وفلسطين، تلقى بالستينو دعوة رسمية من الرئيس الفلسطيني محمود عباس لحضور مباراة ودية بعد التأهل إلى كوبا ليبرتادوريس، كما أصبح بنك فلسطين راعيًا رسميًا للنادي، وانضم اللاعب الفلسطيني شادي شعبان إلى صفوف الفريق، ليشارك في بعض المباريات.

محمود عباس: “بالستينو هو الفريق الوطني الثاني لفلسطين”

في عام 2015، زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس النادي، معبرًا عن امتنانه لجهود الفريق في إبراز القضية الفلسطينية عالميًا. وقال خلال زيارته: “بالنسبة لنا، بالستينو هو الفريق الوطني الثاني للشعب الفلسطيني. إن انتصاراته تمنح شعبنا السعادة، وتشرفنا بأن يكون جزءًا من أمتنا، وسيُخلّد اسمه في تاريخنا.”

وفي عام 2016، بدعوة من الرئيس الفلسطيني، قام بالستينو بجولة تاريخية في آسيا، خاض خلالها ثلاث مباريات في مناطق مختلفة، من بينها مباراة أمام منتخب فلسطين، انتهت بفوز المنتخب الفلسطيني 3-0.

رمزية العلم الفلسطيني.. وكأس تشيلي بعد 40 عامًا

في مواجهة سان لورينزو الأرجنتيني ضمن ربع نهائي كوبا سود أمريكانا 2016، رفع مشجعو بالستينو أكبر علم فلسطيني في تشيلي، في لفتة تعبيرية قوية عن التضامن. وعلى الرغم من تحقيق الفريق الفوز في مباراة الإياب 1-0، إلا أنه ودّع البطولة بعد خسارته ذهابًا 0-2.

وفي عام 2018، احتفل الفريق بتحقيق كأس تشيلي، وهو أول لقب محلي له منذ 40 عامًا، ليضمن مشاركة جديدة في كوبا ليبرتادوريس، حيث واجه ريفر بليت الأرجنتيني وفلامنجو البرازيلي، ليواصل مسيرته كرمز للقضية الفلسطينية على الساحة الكروية العالمية.
يرى باسل مقدادي، المدون الرياضي الفلسطيني، أن وجود بالستينو في المشهد الكروي بأمريكا الجنوبية أمر استثنائي، حيث قال: “من الرائع حقًا أن يكون هناك نادٍ يمثل فلسطين بهذا الشكل. فهناك حوالي 11 مليون فلسطيني حول العالم، ومع ذلك، يوجد فريق على الجانب الآخر من الكرة الأرضية يحمل اسمهم، مما يجعل الأمر مميزًا للغاية.”

ويؤكد ذلك أن العلاقة بين فلسطين ونادي بالستينو لا تُقاس فقط بالمسافة التي تفصل بينهما، والتي تبلغ 8000 ميل، بل تمتد بجذورها إلى 99 عامًا من التاريخ والارتباط العميق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى