د. خالد سعيد يكتب: الثورية السورية.. والمشروع الجيوسياسي للأمة
لعل الثورة السورية تمثل اليوم المشروع الجيوسياسي الذي حلمت به الأمة؛ بعدما قدمت من تضحيات جسيمة حتى وصلت إلى حالة التمكين السياسي لفئة حريصة على الأمة ومقدراتها، وأثبتت وجودها وأحقيتها بما نالها من البطش والتنكيل والعداء واجتماع الكثير من القوى الإقليمية والدولية لإجهاضها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، في موضع هو من أخطر وأهم حواضر الإسلام عبر التاريخ، وما زال مرشحًا لنفس الدور اليوم والغد بعون الله، رغم كل محاولات التقزيم والتهميش خلال خمسة عقود من الحكم البعثي.
كما أنَّها تؤكد أنَّ الثورات العربية لم تمت ولم تكن سحابة صيف أو أوراق خريف عابرة، رغم تفاوت وتباين عوامل تعويقها ومحاولات وأدها، بل أفادت الثورة من فترة الحكم الذاتي المؤقت في المناطق المحررة سابقًا بشمال غرب سوريا، إذ أصابت وأخطأت ونجحت وأخفقت، في تجربة حكم مدني محدودة لكنها قابلة لإعادة التطبيق بصورة أوسع في عمومًا سوريا بعد الفتح المبين.
وفي المقابل، وكما هو ملاحظ فقد بدأ الهجوم على التجربة من أيامها الأولى، وهو الأمر المرشح للتزايد تدريجيًّا، بدعم من قوى الثورة المضادة والانتهازيين وغيرهم، كما يسوق له السذج والبسطاء من بيننا للأسف ودون روية. ويغلب على الظن أنَّ تلك القوى تجهز نفسها وتجمع فلولها وتستعد لكي تعدو على التجربة بهدف إجهاضها، كما أنَّ بعض القوى الدولية والإقليمية في مرحلة الدراسة والتخطيط، للتعامل مع المرحلة الجديدة ورموزها، تمهيدًا للدعم والإمداد والتوصيات لوكلائها كما حدث في ثورة مصر وتونس اللتين أزاحتا نظامي الحكم فيهما قبل أن تنتصر الثورة المضادة وتعيد الدولة العميقة إنتاج النظام في صورة جديدة.
تحديات الثورة
يحار المتأمل في حجم التحديات التي تواجه الثورة السورية المنتصرة ومن أبرزها:
أولًا: التحديات الداخلية
في مقدمتها التعقيدات الإثنية والعرقية العميقة والطبيعة الجغرافية المعقدة والدول المحاذية على الحدود من كل اتجاه، وارتباطاتها بهذه التعقيدات الداخلية ومصالحها، والظروف الاقتصادية الصعبة التي أوصل النظام البعثي البلاد إليها، والتفكك الاجتماعي في بلد مثخن بالجراح من ملايين النازحين والفارين داخليًّا وخارجيًّا، ومئات الآلاف من المعتقلين المحررين، وغيرها من أمور.
علمًا أنَّ المجتمع السوري نفسه لم يعرف قبل النظام البائد العصبية الدينية أو العرقية، فقد كان من رؤسائه ورموزه السني والمسيحي والدرزي، كما كان بلدًا متحدًا اللهم إلا شيء من التمييز النسبي بين التجار والإقطاع والمزارعين، ولم يكن التمييز ضد فئة كالعلويين مثلًا قبل نظام الأسد إلا لكون أغلبهم مزارعين!
وأما اليوم وبعد هذه العقود من الحكم القمعي فقد تطورت هذه التحديات، خاصة بعد ما يقارب أربعة عشر عامًا من الحرب بين النظام وقوى الثورة، واستعانة النظام بأطراف طائفية إقليمية، وما ترتب عليه من تدمير البلد وهدم مقدراته بدرجة خطيرة، حتى أنَّ النظام لم يكلف نفسه تعمير المناطق التي استعادها في حقبة تلت تناحر قوى الثورة وتصارعها، ودخول داعش الذي كاد أن يفشل الثورة برمتها. ولعل أهم تلك التحديات الداخلية تكمن اختصارًا في:
التعامل مع التنوع الديني والإثني في البلاد، ويشمل السنة والدروز والعلويين والاثني عشرية والمسيحيين.
التعقيد العرقي بين العرب والأكراد والتركمان والسريان وغيرهم.
الاقتصاد وبنائه وكيفية تحقيق التنمية المستدامة، وترتيب الأولويات على المدى القريب والمتوسط والبعيد بما يلبي ضرورات الناس واحتياجاتهم أولًا، ثم ما يحقق الرخاء والتقدم للبلد، وذلك في حدود الموارد المتوفرة بحيث تكون هي الأساس.
استراتيجية بناء الدولة المستقبلية ومنهج أو دستور الحكم وهيكلية الدولة ومؤسساتها السياسية.
ومن أهم التحديات كذلك بناء قوة نوعية عسكرية وتقنية قادرة على الردع ومواجهة للتحديات المقبلة.
الموقف المناسب لتثبيت وضع الأنصار من الشباب المسلم الذي شارك في التجربة وقدم التضحيات، بحيث يتم استثمارهم على أفضل وجه ممكن.
ثانيًا: التحديات الخارجية
يمثل الموقع الجغرافي بحدوده وتحدياته ومطامع الخارج فيه؛ وتنازع القوى الإقليمية حوله وانعكاساته على الداخل السوري معضلة للجميع، فمجموعة مثل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” تدعمها الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها، بينما تناصبها تركيا العداء توجسًا من ارتباطاتها الانفصالية. وترتبط قوى درزية في الجنوب بعلاقات مع الاحتلال الصهيوني، وتحدي الموقف السليم من التعامل مع العدوان الإسرائيلي الذي بدأ بمجرد نجاح قوات الثورة في السيطرة على زمام الأمور. ثم يأتي موضوع العلاقات الدولية وإعادة التموضع والتحالفات وعلاقتها بالتطور التقني والاقتصادي المأمول.
وأخيرًا موقف قوى الثورة المنتصرة من الأمة والارتباط بها والاستفادة من نخبها وحركاتها، وكيفية الاستفادة من طاقاتها في هذا المشروع القطري بما يثبت أركانه كمشروع أممي، ولا يعجل باستئصاله. والأهم من ذلك هو إعادة برمجة الحركات الإسلامية ومناهجها بما يتزامن ويتواكب مع هذا المتغير الجديد والبناء عليه.
وفي ظل وحدة الهم والمصير، وتشابك المشكلات والأثر المباشر لهذه التجربة على الأمة بجميع أطيافها وأقطارها، ورغم كون أصحاب التجربة هم أكثر إلمامًا بفهم تعقيداتها، فإنَّ واجب النصيحة وإبداء الرأي، بل والدعم بكل ما يمكن؛ هو واجب على كل صاحب رأي أو فكر أو قلم، فضلًا عن العلماء والكوادر في كل المجالات.
بعض التوصيات
التعددية في ظل الفرقاء والفوضى هي تدعيم للفوضى، ولنتذكر جميعًا أنَّ نجاح الثورة اليوم كان نتيجة مباشرة لتوحيد الفصائل المسلحة، وأنَّ التراجع السابق كان بسببها بالدرجة الأولى.
الانتقال من نهج سيطرة وقيادة الجماعات إلى نهج سيطرة وإدارة الدولة.
دمج الفصائل المختلفة في هيئات مختلطة وغير متمايزة فصائليًّا لتذويب عصبياتها الفئوية.
تصدر القيادة العسكرية للقيادة العامة للدولة ويقتضي هذا تواريها عن أي أدوار جزئية هذه الفترة وتصدير آخرين أكفاء.
تعامل القيادة بمبادئها الأخلاقية مع شخصيات قابلة للاستعباد وعملت كأدوات للديكتاتورية والظلم كالوزراء مثلًا وهي لا تفهم إلا لغة الأمر والنهي والحسم والشدة، فالتعامل بصورة رحيمة يغريها بالانقضاض.
ضرورة إعطاء العبرة بالتنكيل ببعض المجرمين بغاية الشدة الممكنة وجعلهم عبرة لمن يعتبر، وسجن من يمكن من رموز وقادة النظام والعسكر السابق وسياسييه في نفس المعتقلات التي نكلوا فيها بالشعب السوري؛ خلال فترة محاكمتهم الناجزة والسريعة.
هدم السجون كرمزية لهدم الظلم والذل والقهر ومحوها عن الأرض بعد فترة، وبناء متاحف مفتوحة مكانها تخلد ذكرى الشهداء والناجين بالصور والأسماء وتخلد سجلات المجرمين بالاسم والصورة حتى تبقى عارًا عليهم بين المجتمع.
عقد التحالفات القابلة للتغير داخليًّا وخارجيًّا، وفق لعبة الكراسي الموسيقية، وبحسب الحاجات، والأولويات السياسية والعسكرية.
التعبير عن المشاعر والأفكار والمطالب والحاجات والمظالم؛ هو احتياج إنساني مهم، والناس إذا شعروا بالحرية المفاجئة وإمكان قول أو فعل أي شيء؛ بعد تعودهم على الكبت والقهر والرعب من مجرد التفكير أو الشعور؛ فإنَّهم يفرغون كل تلك الجرعة من الذل في السلطة الجديدة واعتبارها ضعيفة.
بعض الخصوم قد يتعاونون معك إذا أبقيت بعض مميزاتهم إلى حين ولا بُدَّ من أن يكون هناك مقابل.
التوازن بين مشكلات وقضايا الداخل والخارج، الترجيح بين أوضاع الناس ولو مخالفة، وبين حاجاتهم، علمًا أنَّ ما لا يفرض اليوم في عز الانتصار والتمكن قد يكون عائقًا غدًا.
تنظيم غرفة مشورة تمد القيادة بتوصيات لحظية.
تشكيل حرس ثوري عسكري غير القوات المسلحة، وجهاز شعبي كرديف مدني لحراسة الثورة وإشاعة مفاهيمها الجديدة.
تشكيل غرفة خاصة لتصدير الثورة للدول التي تحاول العبث في الملف السوري الداخلي، لإشغالها بقضاياها الداخلية، ومساومتها على الاحترام المتبادل للسيادة.
التفاهم مع بعض القوى الداعمة سابقًا لنظام بشار لتخفيف الاحتقان والتوتر والعداء المتبادل؛ بحيث يُدعم الوضع الجديد في سوريا، وتغيير السردية القائمة على وصم الثوار بالعمالة والإرهاب، في مقابل تعهد الإدارة الثورية الحالية بعدم الهجوم على تلك القوى أو من ينوب عنها، ويتوجه العداء توجهًا مشتركًا مفيدًا للجميع.
تجنب التماهي مع بعض الدول الإقليمية الداعمة لتلافي الضغوط والسقوف المنخفضة بخصوص القضايا المصيرية، خاصة مع احتمال حدوث تغيرات جوهرية في الأوضاع السياسية بالمنطقة في الفترة المقبلة.
وإنَّ من أخطر أساليب إجهاض الثورات السماح بأمرين:
الأول:
هو ما يمكن تسميته السماح بفترة إعادة التصلب لقوى الثورة المضادة أو الدولة العميقة، وهي الأولوية الأولى الجاهزة للانقضاض من قلب مجتمع الثورة نفسه، والتي تنثني ولا تموت، وهي متغلغلة كالسرطان تتراجع بالكيماوي لكنها سرعان ما تهاجم وتقتل.
الثاني:
إعطاء الفرصة للتكتلات المسلحة المعادية الأخرى؛ بالتسلح والتموضع مدعومة بقوة خارجية. ولذا ينبغي العمل على إجهاض التجمعات المشبوهة قدر الإمكان وتفكيكها مبكرًا وبأقصى سرعة، عبر إقصاء الشخصيات المؤثرة، ومحاولة استباق تدمير قدراتها العسكرية دون سابق إنذار كاستكمال لعملية الفتح نفسها، ومهم جدًّا عدم الفصل بين العمليتين، فالتأخر لا يعني تجهيز هذه القوى فحسب، وإنما يعني الاتهام بشن حرب على فئة من الشعب، وربما اتهامات بالتطهير العرقي أو الطائفي، وتعني مزاحمة فترة البناء بمعارك قد تعرقلها وتؤدي لأزمات خانقة للناس.
الاعتداءات الصهيونية
يعتمد العدو الصهيوني على الإرباك والمباغتة واستباق الأحداث في أصعب فترات الثورة السورية، فلم تعد الثورة قاصرة على مجموعة مسلحة يسعها أن تفعل ما تشاء وتراه مناسبًا، كما لم يستتب ليصبح دولة حقيقية بكل معنى الكلمة، كما أنَّ أمامها الكثير من التحديات الخطيرة داخليًّا وخارجيًّا، وفي هذا الإطار يمكن وضع بعض التوصيات البسيطة لحين إفراد الموضوع بمعالجة متكاملة:
إلى أن فعل المفاجئ وغير المتوقع والسريع يحقق المفاجآت الاستراتيجية حتى في الحالة السورية في هذه الفترة الصعبة.
الأهم الآن بلا شك هو تثبيت أركان الدولة وعدم الاستدراج لمعركة يفرضها العدو الصهيوني؛ بحيث يخير الإدارة الجديدة للدولة ما بين السكوت أو الاندفاع لمعركة تشتت جهودها وتتيح لأعداء الداخل والخارج الانقضاض عليها، ومجرد قبول الخيار نفسه خطأ، فالحل ليس السكوت مطلقًا وإنما يمكن اتخاذ عدة تدابير مثل إطلاق تصريحات تندد بالاعتداءات الصهيونية وتطالب الدول المجاورة بالتراجع عن استهداف سوريا أو استحداث أي أوضاع جديدة على الأرض انتهازًا للفرصة، وأنَّ الجولان أرض سورية محتلة. كما من المهم تشكيل مجموعات مقاومة غير رسمية بالقرب من المناطق المهددة، وزيادة أعدادها وتسليحها مع الوقت، ومطالبة الدول المتضررة من علاقة قسد بالكيان بدعمها، وتقوم هذه المجموعات بمعادلة كفة الميزان في مقابل مقاومة جنوب لبنان ودورها كذلك. وفتح خط تفاهمات مع القوى المجاورة المناهضة للعدو الصهيوني، على أرضية التصدي للعدو المشترك، دون التدخل في الشأن الداخلي لكل دولة، واحترام سيادتها.
إنَّ هذه نبذة موجزة من التوصيات، يغلب على ظني أنَّها لا تخفى على رجال المرحلة في بلاد الشام، والذين استطاعوا تحقيق النصر على نظام عاتٍ مدعوم إقليميًّا، أذاق السوريين الوبال والظلم والعنت، بل تعدى شره إلى إضعاف بقية دول المنطقة، وساهم في تدخل وتمكين عدة أطراف خارجية بملفات المنطقة. ولعلنا نناقش تلك التحديات كل على حدة في مقالات أخرى بشيء من التأصيل والتفصيل، بغية المساهمة في دعم وتعضيد التجربة الوليدة بالرأي والنصيحة والمشورة، وتوجيه الرأي والنقد في اتجاهه الصحيح. كما سنحاول أن نساهم في تأسيس قاعدة تنظيرية وفكرية تخدم التجربة وتنقدها إيجابيًّا بغية تقويمها والذب عنها.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أهمية “التنظير” كقاعدة فلسفية لأي تجربة تغيير اجتماعي للعمل على بلورة أيديولوجية صلبة، وهو أمر غاية الأهمية لا يقل عن أهمية الصناعات الدقيقة -كمثال- تقنيًّا وتكنولوجيًّا في المجال الاستخباراتي والعسكري، لكن هذا في جانب وذاك في جانب آخر، وفي كل خير.