د. عبد الآخر حماد يكتب: فقهٌ بنكهة النحو
كان العلامة أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء (ت: 207هـ ) إماماً في اللغة والنحو، وكان كثيراً ما يجالس ابن خالته القاضي محمد بن الحسن الشيباني (ت: 189هـ) صاحب الإمام أبي حنيفة .فقال الفراء يوماً: قلَّ رجلٌ أمعن النظر في فنٍّ من العلم إلا سهل عليه غيره.
فقال له محمد بن الحسن: فأنت قد أمعنت النظر في العربية، فنسألك عن مسألة من الفقه.
فقالَ هاتِ.
قال ما تقول في رجل صلَّى فسها، فسجد للسهو، فسها في سجوده أيضاً؟ فأفكر الفراء ساعةً ثم قال: لا شيء عليه. قال محمد: ولِمَ؟ فقال: لأن المصغَّر عندنا -أي عند النحويين- لا يُصغَّر، وإنما سجدة السهو تمام الصلاة، وليس للتمام تمام. يقصد أن السجود للسهو في سجود السهو، هو بمنزلة تصغير التصغير، لأن سجود السهو جبر للصلاة، والجبر لا يجبر، كما أن التصغير لا يصغر.
فقال القاضي: ما حسبت أن النساء يلدن مثلك.
والقصة أوردها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (14 / 151 – 152)، وياقوت الحموي في معجم الأدباء (1/ 15)، والشاطبي في الموافقات (1/ 49) وابن حجر في تهذيب التهذيب (6/ 136) وغيرهم بألفاظ متقاربة.
هذا وقد عد الشاطبي في الموافقات مثلَ هذا الفهم من الفراء من مُلَح العلم لا من صلبه، وذلك لما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف؛ إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر.
فلذا كان كلام الفراء من مُلح العلم التي هي عند الشاطبي أمور مما تستحسنها العقول وتستملحها النفوس.
لكنها ليست أحكاماً قطعية ولا راجعة إلى أصل قطعي، ولا تتصف بالاطراد والعموم، ونحو ذلك مما هو من صفات صلب العلم.