د. عبد الآخر حماد يكتب: مراجعات طه حسين وموقف العلمانيين منها
من أغرب ما تجده عند علمانييِّ بلادنا، ومَن يسمون أنفسهم بالتنويريين، أنهم يجمدون على آراء قديمة قال بها بعض المفكرين والأدباء، يرونها تنصر رؤيتهم للدين والحياة، ويعيدون نشرها في كل حين،حتى لو ثبت أن أولئك المفكرين قد تركوا تلك الآراء وتراجعوا عنها.
ومن أحدث الأمثلة على ذلك ما قرأته في تقديم أحد أولئك (التنويريين) لكتاب من كتب الدكتور طه حسين عنوانه: (من لغو الصيف إلى جد الشتاء)، وقد أعيد نشره منذ شهور ضمن إصدارات الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة.
وفي مقدمة تلك الطبعة كتب المشرف العام على تلك الإصدارات«جرجس شكري» يقول: (لقد آمن طه حسين بالدراسة الموضوعية وغير المنحازة لتراث الأجداد فى مرحلة كان السواد الأعظم يفضِّل النقل على إعمال العقل، وطالب بالتخلى عن الإيمان بما هو راسخ وثابت؛ إذ جاء كتابه «الشعر الجاهلى» عام 1926 عاصفة مدوية زلزلت أركان المجتمع المصري، وقادَ صاحبَه إلى ساحة المحاكم، ليحطم النزعة المحافظة والجمود الذى كان يتعامل به الجميع مع تراث الأجداد، واختار حرية الفكر، وحمل على عاتقه الحفاظ على هوية الثقافة المصرية وترسيخها لدى المصريين).
وأقول: لا شك في صحة ما ذكره ذلك الكاتب عن كتاب «في الشعر الجاهلي»، وما أحدثه من ضجة في المجتمع المصري، بسبب ما ورد فيه من آراء تناقض عقيدة الأمة،وما هو معلوم من دينها بالضرورة، وذلك مثل قوله: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها.
ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعاً من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى).
لكن الذي لا يريد هذا الكاتب وأمثاله أن يعترفوا به هو أن طه حسين قد تراجع عن تلك الآراء المثيرة للجدل، حيث أعاد نشر ذلك الكتاب بعد تغيير عنوانه إلى: (في الأدب الجاهلي)،وحذف منه أهم المآخذ التي أخذت على كتاب الشعر الجاهلي.وصار العنوان الذي يكتبه عند التعريف بكتبه هو (في الأدب الجاهلي) وتُنوسيَ تماماً عنوان (الشعر الجاهلي).
وفي ندوة بثها التليفزيون المصري في منتصف الستينيات أقر طه حسن بأنه أخطأ وتراجع عن أخطائه، وذلك عبر حلقة من برنامج شهير في ذلك الوقت،كان اسمه «نجمك المفضل».
وفي تلك الحلقة من البرنامج المذكور اجتمع حول الدكتور طه حسين عشرة من أشهر أدباء مصر وكتابها في ذلك الوقت، منهم نجيب محفوظ،ويوسف السباعي،وثروت أباظة،وعبد الرحمن الشرقاوي وأنيس منصور وغيرهم. فكانوا يسألونه وهو يجيب.
ومن ضمن الأسئلة التي وجهت إليه سؤال حول المنهج الديكارتي (منهج الشك) الذي كتب على أساسه كتاب الشعر الجاهلي، وهل لا يزال متمسكاً به؟ وهل يُعَدُّ تراجعه عن بعض الآراء التي كانت قد صدرت عنه طبقاً للمنهج الديكارتي، تراجعاً عن ذلك المنهج؟.
وقد كان جوابه على ذلك ما نصه: (جلَّ من لا يخطئ.الإنسان يخطئ ويصيب، فإذا أخطأ وعرف أنه أخطأ،فأبسط الواجب عليه أن يعود إلى الصواب،وهذا لا يُنافي مذهب ديكارت). [الحلقة موجودة بكاملها على اليوتيوب].
ثم إننا نجد في بعض الكتابات المتأخرة للدكتور طه حسين دفاعاً قوياً عن الإسلام وشريعته، وبياناً واضحاً لشمولية أحكام الإسلام، ودحضاً قوياً للمفهوم العلماني للدين.
وخذ مثالاً على ذلك هاتين الفقرتين من كتاب مرآة الإسلام للدكتور طه حسين -والذي يعد من أواخر كتبه -حيث يتحدث (ص: 146) عن القرآن، مبيناً ما فيه من الاتصال الوثيق بين الشعائر التعبدية والأحكام الاجتماعية فيقول: (ثم هو يشرع لهم من الدين والشرائع ما ينفعهم في الدنيا ويعصمهم من عذاب الآخرة إن استمسكوا به على وجهه، فيشرع لهم من أمر الزواج والطلاق والميراث والوصية والبيع والشراء، وغير ذلك مما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وحياتهم الفردية أيضاً، ثم هو يفرض عليهم من أنواع العبادة ما يطهر نفوسهم ويزكي قلوبهم، ويحضر في ضمائرهم حب الله والإخلاص له…).
ويقول (ص: 234): (فكل ما يعرض للمسلمين من الأمر في حياتهم من المشكلات يجب عليهم أن يردوه إلى الله ورسوله، يلتمسون له الحل في القرآن، فإن وجدوا هذا الحل فهو حسبهم، وإن لم يجدوا فعليهم أن يلتمسوه في سنة النبي،فيما صحت به الرواية عنه من قول أو عمل.. فإذا التمس حل المشكلات في القرآن فلم يوجد، والتمس في السنة فلم يوجد، فالمسلمون يرجعون إلى أصل ثالث من أصول الأحكام في الدين وهو إجماع أصحاب النبي.. فإن لم يجد المسلمون في القرآن ولا في السنة، ولا فيما أجمع عليه أصحاب النبي حلاً لبعض مشكلاتهم فعليهم أن يجتهدوا رأيهم، ناصحين لله ولرسوله وللمسلمين).
وبرغم ذلك كله تجد أولئك (التنويريين) مصرين على نسبة كتاب «الشعر الجاهلي» لطه حسين، حتى إنهم لا يزالون يعيدون نشره بكل ما ورد فيه من آراء تراجع عنها صاحبها، وذلك كما فعلت الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث أعادت نشره كاملاً في مجلة القاهرة [عدد رقم 159 الصادر في فبراير 1996].
تماماً كما فعلوا مع رواية «أولاد حارتنا»،التي كان صاحبها «نجيب محفوظ» يُصر على عدم نشرها إلا إذا وافق الأزهر عليها، حتى إنه اعترض بشدة لما حاولت جريدة المساء نشرها بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988.
ثم جرت محاولات لنشرها عقب محاولة اغتياله في عام 1994م، لكنه رفض أيضاً.
ومع ذلك فقد تجاهلت جريدة الأهالي اليسارية ذلك الرفض،ونشرتها كاملة في عددها الصادر في 30 /10/ 1994م.
وبعد: فلا شك أن الدكتور طه حسين رحمه الله هو كغيره من أهل الفكر والأدب يؤخذ من قوله ويُرَد،وليس من مقصودنا هنا إطلاق حكم عام عليه. وإنما المقصود بيان أن أولئك الذين يسمون أنفسهم بالتنويرين لا يُلقون بالاً إلى ما لا يوافق أهواءهم من مراجعات الدكتور طه حسين،وكتاباته الأخيرة في وجوب احتكام المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وإنما هم لا يزالون واقفين عند آرائه القديمة في مرحلة (في الشعر الجاهلي) و(مستقبل الثقافة في مصر)، والتي من الواضح أنه قد تجاوزها وتراجع عن أهم ما فيها،كما بيَّن ذلك الدكتور محمد عمارة رحمه الله في كتابه (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، مستدلاً بمثل هذا الذي نقلناه من كتاباته الأخيرة، وبأنه لم يُعِدْ طبعَ كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر)، ورغم ذلك يقف أولئك المتغربون عند تلك الآراء القديمة، متجاهلين –كما يقول الدكتور محمد عمارة – (تطور فكر طه حسين حول علاقة الإسلام بالسياسة والدولة والقانون والتشريع، وهذا المنهج التغريبي لو تعامل مع صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لوقف بهم عند مرحلة عبادتهم الأصنام)!. اللهم اهد قومنا فإنهم لا يعلمون.
د. عبد الآخر حماد
17/ 12/ 1444هـ- 5/ 7/ 2023م