الأمة الثقافية

صدور كتاب “ديار بئر السبع”.. تاريخ جنوب فلسطين

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب ديار بئر السبع جنوب فلسطين العثماني: الأرض والمجتمع والدولة، من تأليف الباحث أحمد أمارة، وهو كتاب يستعرض تاريخ منطقة بئر السبع ومدينتها بدءًا من السياسة العثمانية تجاه عربانها ومجتمعاتها العشائرية وما عُرف بـ “بدو النقب”، ثم مصيرها ضمن ما سمي “جنوب فلسطين” في التنظيمات العثمانية، كما يناقش التغييرات الجيوسياسية في هذه المنطقة بين سنتَي 1850 و1900، وتكثيف الزراعة وما أنتجه من اهتمام عثماني ودولي، ثم تحويل العثمانيين منطقة بئر السبع إلى ثغر قتالي في وجه بريطانيا المرابطة في مصر.

ويتطرق الكتاب إلى النزاعات العشائرية بين أبناء المنطقة وسببها الحقيقي لا المدوَّن بأقلام مغرضة، متعرضًا للتنازع الدائم بين القانون العرفي العشائري وقانون الدولة. ويناقش الكتاب مسألة بقاء العمل بـ “قانون الأراضي” العثماني بعد سقوط الخلافة العثمانية، وكيفية استخدامه من إسرائيل، داعيًا إلى إعادة كتابة تاريخ جنوب فلسطين بصيغة جديدة. يقع الكتاب في 344 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

السياسة العثمانية تجاه عربان بئر السبع

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد جنوب فلسطين محاولات من السلطات العثمانية لإرساء حكم مباشر في المجتمعات العشائرية وتمدينها، وتهيئتها للدفاع عن السيادة العثمانية وعن فلسطين في وجه التهديدات الأوروبية، كما كان تميُّزُ الجنوب بتوسع زراعي مركزي وعلاقاتِ مِلْكيةٍ ذاتِ وجهٍ اجتماعي – اقتصادي مثير للاهتمام، إضافة إلى الإصلاحات الإدارية العثمانية، عاملَيْ جذب لمزيد من الاهتمام العثماني بهذه المنطقة وصل ذروته في عام 1899، عندما قررت الحكومة العثمانية تأسيس مدينة خاصة بالبدو لإدارة شؤونهم، وهي بئر السبع، وجعلتها قضاءً إداريًّا خاصًّا يهتم بشؤون العشائر المحلية. نظر الإداريون العثمانيون إلى الزراعة بوصفها مصدرًا مهمًّا لزيادة تحصيل الضرائب، ومنصة لإصلاح العشائر “المتخلفة” وعصرنتها في وقتٍ تحولت بئر السبع ومنطقتها إلى ثغر خارجي يتصدّى للتهديد البريطاني من الجهة المصرية، ثم إلى حدود سياسية للدولة.

كوَّنت تشابكات الإدارة العثمانية والسكان المحليين وتفاعل أحدهما مع الآخر تاريخَ المنطقة وشكلها، كما سعت النقاشات المحتدمة في القدس وإسطنبول وغزة وبئر السبع إلى التعامل مع الواقع السياسي – الاقتصادي في الجنوب، وفي الوقت ذاته إنجاز تغييرات سياسية وإدارية مثل: إحلال السلم والاستقرار، الحفاظ على أمن الحدود، تسجيل الأراضي، توطين المجتمعات العشائرية، تأسيس عاصمة إدارية بدوية … وغيرها، وهي تغييرات يسعى الكتاب الحالي إلى عرضها ومناقشتها عبر سرد الرواية التاريخية العثمانية الخاصة بجنوب فلسطين وأهله.

وعلى الرغم من أن مساحة جنوب فلسطين تربو على نصف مساحة فلسطين، ونسبة سكانه كانت 20 في المئة من سكان فلسطين في عام 1948، فإن مدنه، كالخليل وغزة وخان يونس والمجدل وبئر السبع وغيرها، ظلت موضعَ تجاهل البحوث الأكاديمية، التي كان العاملون فيها يركزون على القدس، لمركزيتها وقداستها، وعلى المدن الجبلية والساحلية كنابلس وحيفا ويافا وتل أبيب، ولا سيما تاريخ المنطقة العثماني في القرن التاسع عشر، الذي انحصرت معرفته في توثيقات الرحالة الأوروبيين وعلماء الآثار وبعض المؤرخين الهواة أو الإثنوغرافيين، فلم يصلنا إلا القليل عن الوجود العثماني وإدارته وتفاعله مع المجتمعات الجنوبية، وفي هذا القليل تركيز على العلاقات المنفصلة أو العدائية بين المركز الإداري العثماني وعشائر البدو.

أما دراسات الفترة العثمانية المتأخرة في فلسطين فتمحورت بشكل عام حول الصراع الصهيوني – الفلسطيني، وذخرت بمفاهيم الصراع القومي، وكانت كلها تقريبًا تنطلق من نقطة بداية واحدة هي بداية الاستيطان الصهيوني في عام 1882، وتصل إلى نقطة نهاية واحدة هي تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. في هذه الدراسات يصف كلٌّ من طرفي الصراع؛ الصهاينة والعرب، الدولةَ العثمانية بالقمع والفساد. ودفعت هذه الدراسات إلى إعادة تقييم مهمة للفترة العثمانية، وركّزت على دراسة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجموعات غير النخبوية، وقد ندرت فيها الأبحاث بشأن الأرض ونظام الملْكية في العهد العثماني بالرغم من مركزية قضية الأرض في تاريخ فلسطين وحاضرها، وتَرَكُّزُ ما توافر منها عن الأراضي على الصراع، وعلى عمليات شراء الحركة الصهيونية أراضيَ إبان الحكم العثماني، ثم نزع الملْكية الفلسطينية عنها في ظل الانتداب الإنكليزي، وبقيت علاقات الملْكية في جنوب فلسطين غير مستكشَفة، حتى خرقت مقالةٌ مهمة عن التنظيمات العثمانية في بئر السبع لياسمين أفجي في عام 2009 جدارَ هذا التهميش، في خضمّ بحر من الدراسات عن الفئات الاجتماعية الفلسطينية خلال الفترة العثمانية تركّزت على المجتمعات البدوية والعشائرية.

أهمية الكتاب

تعاني معظم الدراسات حول “بدو النقب” عيوبًا بحثية وأفكارًا نمطية يتطرق إليها كتابنا ديار بئر السبع، مثل فرضيات “البحث عن الترحال”، و”رعوية المجتمع القبلي”، الذي صوِّر مجتمعًا معزولًا يندر أن يتعامل مع الدولة ومؤسساتها، وبدء استخدام كلمة “النقب” صهيونيًّا منذ ثلاثينيات القرن العشرين – شأن مناطق أخرى شملها تحريف الرواية الصهيونية – بوصفها منطقة صحراوية جنوبَ فلسطين سكانها بدو رُحّل قليلون، بدلًا من الإشارة إليها بوصفها منطقة عقائدية أُشير إليها تسع مراتٍ في الكتاب المقدس بعبارة: “من دان حتى بئر السبع” (From Dan to Beersheba). وقد ظهر خبث الحركة الصهيونية مع إطلاقها دلالات رمزية للنقب تمثّلها وكأنها قصة نجاح عظيمة للحركة الصهيونية في دفع “صحراء النقب” نحو الازدهار، وهو نهج ينطبق إلى حد كبير على “دراسات بدو النقب”. ويسعى الكتاب إلى سدّ فجوة معرفية في أبحاث جنوب فلسطين وسكانها، وتاريخ المنطقة القانوني – الاجتماعي، وبالذات في الفترة العثمانية، ويسترشد بنظريتَي “الجغرافيا غير المتكافئة” و”التعددية القانونية”، كما يركز على التقاطعات بين القانون والتاريخ والجغرافيا، وعلى قضايا التنازع وأنماطها.

وكالات

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى