“في رثاء الأندلس”.. شعر: أبو البقاء الرِّندي
![الأندلس](https://alomah.net/wp-content/uploads/2024/01/الأندلس.jpg)
لكلِ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ / فلا يُغرُّ بطيب العيشِ إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتُها دُولٌ / مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ / ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
يُمزّق الدهرُ حتمًا كل سابغةٍ / إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ
وينتضي كلُّ سيفٍ للفناء ولوْ / كان ابنَ ذي يزَنٍ والغمدَ غُمدان
أين الملوك ذَوو التيجان من يمنٍ / وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ ؟
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ / وأين ما ساسه في الفُرس ساسانُ ؟
وأين ما حازه قارونُ من ذهبٍ / وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ ؟
أتى على الكُل أمر لا مَرد له / حتى قَضَوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلِكٍ / كما حكى عن خيال الطّيفِ وسْنانُ
دارَ الزّمانُ على (دارا) وقاتِلِه / وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصَّعب لم يسْهُل له سببُ / يومًا ولا مَلكَ الدُنيا سُليمانُ
فجائعُ الدهر أنواعٌ مُنوَّعةٌ / وللزمان مسرّاتٌ وأحزانُ
وللحوادث سُلوانٌ يسهلها / وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له / هوى له أُحدٌ وانهدْ ثهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فامتحنتْ / حتى خَلت منه أقطارٌ وبُلدانُ
فاسأل (بلنسيةً) ما شأنُ (مُرسيةً) / وأينَ (شاطبةٌ) أمْ أينَ (جَيَّانُ)
وأين (قُرطبة)ٌ دارُ العلوم فكم / من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين (حْمص) وما تحويه من نزهٍ / ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما / عسى البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ
تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ / كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ
على ديارٍ من الإسلام خاليةً / قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما / فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ / حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ / إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ / أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ ؟
تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها / وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً / كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفةُ / كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ / لهم بأوطانهم عـزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأٌ من أهل أندلسٍ / فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ ؟
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم / قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ؟
ماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ / وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ ؟
ألا نفوسٌ أبياتٌ لها هممٌ / أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ
يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عـزِّهمُ / أحال حالهمْ جورُ وطُغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم / واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ / عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ / لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ
يا ربَّ أمٌ وطفلٌ حيلَ بينهما / كما تفرّقَ أرواحٌ وأبدانُ
وطفلةً مثل حُسنِ الشمسِ إذ طلعت / كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودُها العلجُ للمكروهِ مكرهةً / والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ
لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ / إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
—————————————————
الشاعر:
– أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي
(601 هـ -684 هـ.. الموافق: 1204 – 1285 م)
– من أبناء (رِندة) قرب الجزيرة الخضراء بالأندلس وإليها نسبته.
– عاشَ في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس وشهد سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد الأسبان.
– كان فقيها، وبارعا في نظم الكلام ونثره، وكذلك أجاد في المدح والغزل والوصف والزهد. .. إلا أن شهرته تعود إلى هذه القصيدة
والقصيدة منظومة على البحر البسيط ، ومأخوذة من كتاب نفح الطيب، وهو أفضل مصدر لها