قرأتُ لك “أسْرارُ البيَانِ في القُرْآنِ”
البَيانُ في الفِعْل (اسْتَوَى) في قولهِ تعَالى عن (مُوسَى) عليهِ السّلام: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
وذَلكَ قَوْلُهُ تَعالَى في سُورَةِ (القَصَصِ)،عنِ النَّبيّ (موسَى) عليهِ السّلام: ﴿وَلَـمَّا بَلغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ . وقولهُ تعَالَى عَن النَّبيّ (يُوسُف) عَليه السَّلام، فِي سُورَة (يُوسُف ): ﴿وَلَـمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ . فَقد تَطابَقتِ الآيَتانِ إلَّا في الفِعل (اسْتَوَى)، الّذي تَفرَّدَتْ بهِ آيَة (مُوسَى). وهوَ فعلٌ مَزيد بحَرفين عَلى وزنِ (افْتَعَلَ)، منَ الأصلِ الثُّلاثيّ (سوي).
قالَ عنهُ (ابنُ فارسٍ) في (مَقاييس اللّغة): «سوي: السّين والوَاو واليَاء، أصلٌ يَدلّ على اسْتقَامَة واعْتِدالٍ بيْنَ شَيئَينِ». فلازمَهُ بعدَ اشتِقاقِهِ معنَى (الاعْتِدال والاسْتِقامَة)، معَ ما تُضيفُهُ الصّيغةُ منْ معَانٍ جَديدة، وما يُضيفُهُ السّياقُ.
وهذَا الفعلُ تَكادُ دَلالتهُ تُماثلُ ما عُطِفَ عليْهِ؛ وهوَ قولهُ: ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾،حتّى أنّ بعضَ الـمُفسّرينَ ساوَى بَينهما في المعْنَى، تَصريحاً أو تَلميحاً. ومنْ ذلكَ قولُ (الْـمُرتضَى الزَّبِيديّ) في (تَاج العَرُوس): اسْتَوَى (الرَّجُلُ) إِذا (بَلَغَ أَشُدَّهُ)؛ فعلى هَذَا قولُه تَعَالَى: ﴿ولمَّا بَلَغَ أَشُدَّه واسْتَوَى﴾، يَكونُ (اسْتَوَى) عَطْفَ تَفْسِير.
فجعَلَ (اسْتَوى) تَفسيراً (لبَلَغَ أشُدّه)، لذلكَ جازَ عطفُهُ عليهِ، لأنَّ العَطفَ يَقتَضي الْـمُغايَرة. والَّذينَ ذَهبُوا إلَى المغَايَرَة، جعَلُوا (الأَشُدّ) بمَعنَى (الْحُلُم) و(البُلُوغ)،أوْ حَصرُوهُ بالسّنّ بينَ الثّامنةَ عشرَةَ، والثَّالثَة والثَّلاثينَ. وجَعلُوا (اسْتَوَى) بمَعنَى: تَمَّ خَلْقُهُ واسَتَحكَم.أوْ حدَّدوهُ ببُلُوغ الأربَعينَ.
و قدْ جمعَ الإمامُ (الرَّازيّ) في (تفسيرهِ) بعضاً منْ تلكَ التَّأويلاتِ الَّتي ذهبَ إليهَا المفسّرونَ، باخْتلافِهم في بيَان دَلالةِ اللّفظَين، فقالَ: «اختَلفُوا عَلى وجوهٍ . أحدُهَا: وهوَ الأقرَبُ، أنّ الأشُدّ عبارةٌ عنْ كمَال القُوَّة الجِسمَانيّة البَدنيّة، والاسْتواءَ عبارةٌ عنْ كَمال القوّةِ العَقليّة. وثَانيهَا: الأشُدّ عبارةٌ عنْ كمَال القُوّة، والاسْتواءُ عبارةٌ عنْ كَمال البِنيَةِ والخِلْقَة. وثالثُها: الأشُدّ عبارةٌ عنِ البُلُوغ ، والاسْتواءُ عبارَةٌ عنْ كَمالِ الخِلْقَة» وهوَ كمَا ترَى فصلٌ غيرُ دقيقٍ، فالمعَاني في الألفَاظِ مُتقاربَة، تكادُ لا تخرجُ منهَا بمَا يَشفي منْ غُلّة.فإذَا استحضَرتَ قولهُ تعالَى في سورَة(الأحْقَاف): ﴿حَتّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾، وقفْتَ علَى معنىً علَى غَير مَا ذكرُوا، وبانَ لكَ أنَّ (الأشُدّ) ليسَ مرحلَةً سابقَةً علَى (الاسْتِواء) الَّذي جعَلوهُ في (الأَربَعين)، وإنّما هوَ مَعهَا.
لذلكَ فالَّذي يَظهرُ ويَرجحُ أنّ المرادَ منهُ، بُلوغُ الإنسانِ عُمراً يَشتدُّ فيهِ بَدنهُ ويَستَحكِمُ عَقلُه. وهوَ أمرٌ يحدُثُ على الغَالبِ في سنِّ الأربَعين، لذلكَ كانتْ بعثَةُ الأنبيَاء علَيهمُ السَّلامُ، في هذهِ السّنّ.ثمَّ إنّ الناظِرَ بتَبصُّر في الآيتينِ، يُدركُ أنّ (مُوسى) و(يُوسُف) عليهمَا السَّلامُ، كِلاهُما نُسبَا إلى (بُلُوغ الأَشُدّ)،الَّذي خوَّل لهمَا منَّةَ رَبّ العِزّة، بأَنْ آتَاهُما (حُكماً وعِلماً). لكنَّ (مُوسى) عليهِ السَّلام، أضافَ لهُ، تعَالى، صفةَ (الاسْتِواء)، وذلكَ لمعنىً يُخفِي خَالصةً تَفرَّدَ بها (مُوسَى) عَليهِ السَّلام.
وهذهِ الصّفةُ وإنْ كانَ يَجمعُها معنىً يَحتَويهَا، فقدْ جاءَت في القُرآن الكَريمِ، علَى انْفساحٍ منَ الدَّلالَات، يَستلْزمُ كُلّاً منهَا خُصُوصُ السِّيَاق.
وقدْ جمَعَها (ابنُ الجَوزيّ) في (نُزهَةِ الأعْيُن النَّواظِر في عِلْم الوُجُوه والنَّظَائر)، فقالَ: «وَذكرَ بعْضُ الْمُفَسّرينَ أَنّ الاسْتوَاء فِي الْقُرْآن علَى سِتَّةِ أوجُهٍ:
أَحدُهَا: الْعَمدُ وَالْقَصْدُ، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي (فُصّلَت): ﴿ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخانٌ﴾.
وَالثَّانِي: الِاسْتِقْرَارُ، وَمِنْه قَوْلُه تَعَالَى فِي (هُود): ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُوديّ﴾.
وَالثَّالِث: الرّكُوبُ، وَمِنْه قَوْلهُ تَعَالَى فِي (الْـمُؤمنِينَ): ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾.
وَالرَّابِعُ: الْقُوَّةُ والشِّدّةُ، وَمِنْه قَوْلهُ تَعَالَى فِي (الْقَصَص): ﴿وَلَـمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾، أَي: قَويَ وَاشْتَدَّ.
الْخَامِسُ: التَّشَابُه، وَمِنْه قَوْلهُ تَعَالَى فِي (الْأَنْعَام): ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى والْبَصيرُ﴾.
وَالسَّادِس: الْعُلُوُّ، وَمِنْه قَوْلهُ تَعَالَى (فِي طه): ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.
ومَعْنَى (اسْتَوَى) فِي هَذِهِ الآيَة كَمَا تَرى: (قَوِيَ واشْتَدّ).وهوَ ما قَرَّرَهُ بَعْضُ اللُّغويّين، ومنهُم (الْفَيْرُوزآبَادِيّ )، فقالَ في (بَصائِر ذَوِي التَّميِيز): «﴿وَلَـمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ ،أَيْ: قَوِيَ وَاشْتَدَّ». وإذَا كانَ العَطفُ يَقتَضي الْـمُغايَرَة، فَهذهِ (القُوَّةُ والشِّدَّةُ)، هيَ غيرُ (الأَشُدّ) الذِي يَشتَركُ فيهِ النَّبيَّان جَميعاً. بلْ هيَ (قُوّةٌ وشِدّةٌ) تَفضُلُ ما قَبلهَا وتَزيدُ علَيهَا.
وأنتَ حينَ تَتدبَّرُ الآيَاتِ عَلَى امْتدَادِ قصَّة (مُوسَى)، عليه السلام، في القُرآنِ، تجدُهُ، علَى تَمامِ القُوَّة والشّدّة، واكْتمَال الخِلقَةِ والأَيْدِ. فأنتَ تَقرَأ في الآيات كلمَاتٍ تُوحي بذَلكَ وحْياً ظاهراً، مِنْ غَيرِ تَكلّفِ فهمٍ، ولا بُعدِ تَأويلٍ، فتَقرأُ (القَتلَ وَكْزاً)، في قولِهِ تعَالى:﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾. والوَكْزُ هُوَ الضَّرْبُ بِمَجْمَعِ الكَفِّ عَلَى حَرْفِ الذَّقْنِ. فقَتلهُ بضَربَةٍ منْ يَدهِ لا بِسِلاحٍ، وهذَا مُنتهَى القُوّة. وتَقرأُ (البَطشَ) في قولِهِ تَعَالى:﴿فلمّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾، و(جَبَّاراً) في قولهِ عزَّ وجلَّ: ﴿إنْ تُريدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً﴾.
وعَن المَرْأتَينِ الضّعيفَتَينِ أمَامَ (الرِّعَاء) الأَشدّاءِ، تَقرَأُ: ﴿فَسَقَى لهُمَا﴾. وهوَ الغَريبُ عنِ القَوْمِ، وهمْ أَهلُ الأَرْضِ والسَّطْوَة. وتقرَأُ قولَ البنْتِ لأَبيها، شاهدَةً على مَا رأتهُ من قُوّتِهِ: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأَجَرْت القَويُّ الأَمينُ﴾. وتقرأُ عنْ فعلهِ بِأخيهِ (هَارونَ)، في فَورَةِ غَضبٍ: ﴿وأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾.
ثمّ أنتَ تقرَأ وَصفَ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، لِـمُوسَى عليهِ السَّلامُ وقدْ رآهُ لَيلَةَ الإسْرَاء، فتَجدُ تلكَ القوَّةَ وتلكَ الشّدَّةَ. فقَدْ رَوَى (البُخَاريّ) في(صَحيحِهِ)، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «رَأيتُ لَيلَةَ أُسْريَ بي مُوسَى رَجُلاً آدَمَ طُوَالاً جَعْداً، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ». قالَ (قِوامُ السُّنّة أبُو القَاسِم الأصْبهَانيّ) في (شَرح صَحِيح البُخَاريّ): «الجَعْدُ، وهُوَ هَهُنا مَدحٌ، وَمَعْنَاهُ: مَعْصُوبُ الخَلْقِ، شَدِيدُ الأَسْرِ».
وقالَ (ابْنُ حجَر) في (فَتحِ البَاري): «قالَ النَّوَويّ: الجُعُودَةُ في صِفَة (مُوسَى)، جُعُودَة الجِسْم. وهُوَ اكْتِنَازُهُ واجْتِمَاعُهُ» .وصفَةُ (طُوَال) أَبعَدُ مُبَالغةً منْ (طَويل). فَقَدْ كَانَ (مُوسَى) عَليه السلام، بما حباهُ اللهُ، قَويّ البِنيَة، ذَا بَسطةٍ في الجِسْم. وهي مِيزةُ القَائدِ الَّذِي وَاجَهَ طاغيةً شَديدَ البَطشِ، وقَادَ أُمَّةً انْهزامِيَّةً مُتَوَاكِلَةً، نَافِرَةً أشدَّ النُّفُور، مُتَقلِّبَةً، غادِرَةً، تستلزمُ رَجُلاً عَلى قدرٍ عالٍ منَ القوّةِ والصَّلابَة والحَزمِ.
فتلكَ الزِّيَادة في مَبنَى الآيَة، بقَولهِ،(وَاسْتَوى) تُوحِي فِي خَفَاءٍ بيانِيٍّ بديعٍ، إلَى هَذَا المعنَى، في الصِّفَة الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا (مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلام، فَضلاً منَ اللهِ عليهِ، واسْتِمكاناً لهُ لخُصُوصيّة رسَالتهِ ، وهيَ القوَّةُ البَدنيّة وكمالُ الاسْتِوَاء فِيها. وفي هَذا المعنَى يَقولُ (ابنُ القَيّم) في(مِفْتاحِ دارِ السَّعَادَة): «وَلَـمَّا كانَ الّذي آتَاهُ مُوسَى منْ ذلكَ أَمرًا عَظيماً، خَصَّهُ بهِ عَلى غَيرِهِ، وَلا يَثبُتُ لَهُ إلّا الْأَقويَاءُ أُولُو العَزْم، هَيَّأَهُ لهُ بعْدَ أنْ بلغَ أشُدَّهُ واسْتَوَى، يَعْني: تَمَّ وكَمُلَتْ قُوَّتُهُ».
أمَّا (يُوسُفُ عليهِ السَّلامُ، فلمْ يَكنْ بِتلكَ الشِّدّة. وإنّكَ لتَقرأُ في سُورَة (يُوسُف) عنهُ، فتَجدُ الحِلْمَ والرِّفْقَ والصبْرَ. فتراهُ يقولُ لإخْوَتهِ بعدَ أنْ أقْدَرَهُ اللهُ عَليهمْ، وبَعدَ البَلاء الشَّديدِ منهُمْ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ﴾.