“كَبِرتُ كَذاكَ المَرءُ ما عاشَ يَكبُرُ”.. شعر: حسان بن ثابت
كَبِرتُ كَذاكَ المَرءُ ما عاشَ يَكبُرُ
وَقَد يَهرَمُ الباقي الكَبيرُ المُعَمَّرُ
لَقَد كُنَّ يَأتينَ الغَواني يَزُرنَني
بِأَردانِها مِسكٌ ذَكيٌّ وَعَنبَرُ
وَلَمّا رَأَينَ البيضُ شَيبي وَذَرنَني
وَنادَينَني يا عَمُّ وَالشَيبُ يوذِرُ
تَنَفَّرنَ عَنّي حينَ أَبصَرنَ شامِلاً
عَلى مَفرِقي كَالقُطنِ بَل هُوَ أَنوَرُ
وَكُنَّ خِلالي يَومَ شَعري كَأَنَّهُ
جَناحُ غُدافٍ أَسوَدٍ حينَ يُنثَرُ
أَريعُ عَلَيهِ البانُ في كُلِّ لَيلَةٍ
فَيُصبِحُ جَعداً كَالعَناقيدِ يَقطُرُ
وَقَد كُنتُ أَمشي كَالرُدَينِيِّ ثابِتاً
فَصِرتُ كَأَنّي ظالِعُ الرِجلِ أَصوَرُ
فَبُدِّلتُ شَيباً بَعدَما اِسوَدَّ حالِكٌ
مَتى مَسَّهُ خَضبٌ إِذا هُوَ أَحمَرُ
كَرابِيَةٍ حَمراءَ في رَأسِ حالِقٍ
عَلى شَعَفٍ بادٍ لِمَن يَتَبَصَّرُ
عَلا الشَيبُ رَأسي بَعدَما كانَ أَسوَداً
وَفي الشَيبِ آياتٌ لِمَن يَتَفَكَّرُ
وَبَعدَ الشَبابِ الشَيبُ وَالضَعفُ وَالفَنا
وَمَوتٌ لَهُ قَدرٌ عَبوسٌ مُكَدِّرُ
فَكَم كَم مِنَ الأَملاكِ قَد ذَلَّ مُلكُهُم
وَهَل مِن نَعيمٍ دائِمٍ لا يُغَيَّرُ
سِوى مُلكُ رَبّي ذي الجَلالِ فَإِنَّهُ
لَهُ المُلكُ يَقضي ما يَشاءُ وَيَقدِرُ
لَقَد كانَ قَحطانُ النَدى القَرمِ جَدُّنا
لَهُ مَنصِبٌ في رافِعِ السَمكِ يُشهَرُ
يَنالُ نُجومَ السَعدِ إِن مَدَّ كَفَّهُ
تَقِلُّ أَكُفٌّ عِندَ ذاكَ وَتَقصُرُ
وَرِثنا سَناءً مِنهُ يَعلو وَمَحتِداً
مُنيفَ الذُرى سامي الأَرومَةِ يُذكَرُ
إِذا اِنتَسَبَت شوسُ المُلوكِ فَإِنَّما
لَنا الرايَةُ العُليا الَّتي لَيسَ تُكسَرُ
لَنا مُلكُ ذي القَرنَينِ هَل نالَ مُلكَهُ
مِنَ البَشَرِ المَخلوقِ خَلقٌ مُصَوَّرُ
بَواتِرَ يَتلو الشَمسَ عِندَ غُروبَها
لِيَنظُرَها في عَينِها حينَ تَحضُرُ
وَيَسمو إِلَيها حينَ تَطلُعُ غَدوَةً
فَيَلمَحَها في بُرجِها حينَ تَظهَرُ
وَكيلاً بِأَسبابِ السَماءِ نَهارَهُ
وَلَيلاً رَقيباً دائِماً لَيسَ يَفتُرُ
وَأَوصَدَ سَدّاً مِن حَديدٍ أَذابَهُ
وَمِن عَينِ قِطرٍ مُفرَغاً لَيسَ يَظهَرُ
رَمى فيهِ يَأجوجاً وَمَأجوجَ عِنوَةً
إِلى يَومِ يُدعى لِلحِسابِ وَيُنشَرُ
وَفي سَبَإٍ هَل كانَ عِزٌّ كَعِزِّهِم
لَهُم حَسَبٌ مَحضٌ لُبابٌ وَجَوهَرُ
وَقَد كانَ في بَينونَ مُلكٌ وَسُؤدُدٌ
وَفي ناعِطٍ مُلكٌ قَديمٌ وَمَفخَرُ
وَأَسعَدَ كانَ الناسُ تَحتَ سِيوفِهِ
حَواهُم بِمُلكٍ شامِخٍ لَيسَ يُقهَرُ
تَواضَعُ أَشرافُ البَرِيَّةِ كُلِّها
إِذا ذُكِرَت أَشرافَها اكصيدُ حِميَرُ
وَفي الكُفرِ كُنّا قادَةً وَذَوي نُهى
لَنا عَدَدُ القِبصِ الَذي هُوَ يَكثُرُ
وَأَوَّلُ مَن آوى النَبِيَّ مُحَمَّداً
نَصَرنا وَآوَينا نَذُبُّ وَنَنصُرُ
عَنِ المُشرِقِ المَيمونِ أَحمَدَ ذي النُهى
كَأَنّا ضَراغيمُ الفَضا حينَ نُصحِرُ
إِذا شَمَرَت حَربٌ وَهَزَّ هَزيزُها
نَهَضنا مَساعيراً لَها حينَ تُسعَرُ
نَكُبُّ الكُماةَ الشوسَ عِندَ اِصطِلائِها
قَتَلنا وُلاةَ الشُركِ مَن كانَ يَكفُرُ
إِذا زَفَّتِ الأَنصارُ حَولَ مُحَمَّدٍ
بِجَيشٍ كَيَمٍّ مُزبِدٍ حينَ يَزخُرُ
يَزُفّونَ حَولَ الهاشِمِيَ نَبِيِّهِم
عَلى وَجهِهِ نورٌ مِنَ اللَهِ يُزهِرُ
إِذا خَطَروا بِالمَشرِفِيَّةِ وَالقَنا
فَبِخ بِخ لَهُم مِن عُصبَةٍ حينَ تَخطُرُ
إِذا ما مَشوا في السابِغاتِ كَأَنَّها
هَزيمٌ مِنَ الرَعدِ المُجَلجِلِ يَزأَرُ
فَضَلنا مُلوكَ الشامِ في كُلِّ مَشهَدٍ
لَنا الأَثرُ في المَرعى وَوِردٌ وَمَصدَرُ