محمد إلهامي يكتب: معالم الطوفان.. إطلالة على كتاب مهم

صدر قبل أيام كتابٌ مهم، كتبه مجاهد غزيٌّ باسم: أحمد أبو صهيب، والكتاب بعنوان: «طوفان الأقصى سياقات ومآلات»، نُشِر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو كتيب صغير على أهميته لم يبلغ ثمانين صفحة. ولأهمية هذا الكتاب، فقد جعلت هذا المقال تلخيصا لأهم ما فيه، وإن كان التلخيص لا يغني عن الأصل.
أراد الكاتب المجاهد، الذي يكتب من قلب المعركة، أن يجاهد باللسان كما يجاهد بالسنان، لا سيما بعد اندلاع السؤال الكبير: هل كان طوفان الأقصى قرارا خاطئا؟
(1)
يشير المؤلف إلى أن هذا السؤال ليس نابعا في الأصل من قراءة موضوعية، بل هو مضَمَّخٌ بطعم الوحشية الدموية التي ألهبت أهل غزة بنيرانها، فكثير من الخائضين فيه هم من المستهدفين بخطة الصهاينة: كيِّ الوعي!
ومن ثَمَّ فأول ما ينبغي عمله في الإجابة عن هذا السؤال هو تذكر أصل القضية وجوهر الصراع، والنظر إلى قرار طوفان الأقصى ضمن مسار الكفاح الكبير، ليحسن فهمه، وتقييمه، ووضع اليد على ما فيه من الصواب أو الخطأ.
من ها هنا يبدأ الفصل الأول: سياقات الطوفان
ليس أهل فلسطين بدعا من الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال؛ وجميع تلك الشعوب التي جاهدت الاحتلال دفعت الثمن العظيم لقاء هذا التحرر، وهذا الثمن العظيم تدفعه الشعوب الضعيفة وهي تواجه الاحتلال بأكثر مما تدفعه قوات المحتل نفسه، والمنتصر هو أصبرهما، حين يوقن المحتل أنه لا يستطيع تحمل هذه التكلفة فيرحل، بعد أن يكون قد أثخن في الناس كثيرا كثيرا كثيرا.
وما من شعب تحرر إلا وكان ضحاياه أكثر من ضحايا المحتل نفسه! وكثيرا ما كان التحرر قضية أجيال لا ينتهي في جيل واحد، بل إن الجيل الذي هُزِم يورث الجيل القادم مهمة التحرر، فإن استطاع الجيل فبها ونعمت وورث جيل الأحفاد بلدا محررا، وإلا واصل جيل الأحفاد مهمتهم من جديد.
وواجب الكفاح هذا ليس قرارا تختاره فئة من الشعب المحتل، بل هو واجب على الجميع أن يؤديه، والناكص عنه جبان أو خائن، ليس حكيما أو محايدا!!
(2)
فإذا نظرنا إلى الحال، كيف وصل قبل الطوفان، فسنرى بوضوح أن الصهاينة كانوا يتخوفون من ثلاث جهات: إيران، لبنان، غزة. وقد كانت مناوراتهم العسكرية في الفترة الأخيرة تحاكي حربا متزامنة على ثلاثة جبهات.
وإلى أن تأتي لحظته المناسبة –سياسيا وعسكريا- لخوض هذه الحرب الكبيرة، فإنه تعامل مع غزة على طريقة المُسَكِّنات التي تعالج الصداع والأعراض، وأهم ما في هذه الطريقة: المضاعفة المستمرة لاحتياطاته الأمنية برا وبحرا وجوا:
فالسياج البري العازل تتراكم طبقاته الأمنية ومجسّاته الأرضية حتى استطاع إفشال عمليتيْن كبيرتيْن عبر أنفاق هجومية لاتخاذ أسرى، فقُتل جميع المنفذين وبذلك أخفقت وسيلة الأنفاق الهجومية. وضاعف تعقيداته الأمنية بحريا، وضاعف من قوة منظومة القبة الحديدية جوًّا بحيث لم يعد أمام المقاومة إلا رمي 100 صاروخ دفعة واحدة لكي يفلت منها بضعة صواريخ، وهو استنزاف هائل لقدرات المقاومة.
وهذا فضلا عن تشديد الحصار –الذي يشارك فيه بهِمَّة: النظام المصري- وعن ضربات يسددها العدو بين الفينة والأخرى ليمنع تراكم القوة لدى المقاومة ويختبر ما عندها.
ووراء كل هذا: الحرب الأمنية المجنونة التي استطاع فيها العدو كشف أمور كثيرة مهمة –بفعل تفوقه التقني وقدراته التجسسية الهائلة- من خطط المقاومة ومقدراتها، وكان أي نجاح صغير في هذا الجانب الأمني ينسف عمل السنين الطويلة والأموال الطائلة والجهود الشاقة.
وأما المقاومة في غزة، فقد حاولت مرارا، بالأساليب السياسية والعسكرية أن تتخلص من الحصار، وأن تتخلص كذلك من محاولات عزلها عن القضايا الجوهرية: القدس والأسرى والأرض، وأبدت من المرونة السياسية، وكذا من العبقرية العسكرية، ما اصطدم في النهاية بواقعٍ عربي يريد إنهاءها، حتى قررت بعد 2014م ألا تخوض معركة كبرى مع الاحتلال إلا إن كان سيؤدي إلى تحقيق هدف ملموس في قضية كبيرة مثل القدس والأسرى، كي لا تكون مجرد استنزاف!
(3)
انبثقت فكرة الطوفان، بالمصادفة ضمن مسيرات العودة، التي كشفت عددا من الثغرات في السياج البري، وكان لا بد من العمل السريع والسري على استغلال هذه الأمور، فإن تنبه العدو لثغرة عنده أو تسرب معلومة له قد يعني ضياع الفرصة.
كان تقدير المقاومة هو القيام بهجوم واسع على مواقع العدو المحاذية للقطاع، وأن هذا الهجوم سيفشل على أغلب المواقع، غير أن الصدمة التي سيحققها، وبعض الأسرى الذين سيمكن أخذهم سيؤدي إلى ردة فعل قاسية لكنها محتملة في النهاية، وسيمكن بهؤلاء تحقيق إنجاز في قضية مثل: القدس والأسرى.
وقد أخفق تقدير المقاومة؛ فلقد نجح هجومها نجاها باهرا لم يكن متوقعا، كما أن ردة الفعل الصهيونية الهائلة لم تكن في الحسبان!
لقد كان الطوفان واحدًا من أعظم العمليات العسكرية المدهشة عبر التاريخ؛ كما كانت حرب الصهاينة على غزة واحدة من أكثر الحروب توحشا ولا أخلاقية كذلك!
(4)
ثارت الكثير من الأسئلة، ولكن أهمها ثلاثة:
- هل كان الأفضل تأجيل الهجوم حتى نكون أكثر قوة؟
- هل كان ينبغي أن يكون صغيرا محدودا لئلا يترتب عليه هذا العنف الهائل من العدو؟
- وهل قدم الهجوم ذريعة لوحشية الاحتلال؟
لو فكرنا في تأجيل الهجوم، فماذا كان سيكون؟
إن الأرض في النهاية لن تتحرر بالمعارك والمناوشات الصغيرة، فإن لم نهاجم اليوم فسنهاجم بعد مدة، وفي هذه المدة سنكون أكثر ضعفا وسيكون العدو أكثر قوة لأن الزمن وتراكم القوة يعمل في صالحه، فنحن شعب محاصر يزداد التضييق علينا، وهو عدو مفتوحةٌ له الأبواب والخزائن بالأموال والسلاح والتقنيات.
ما من يومٍ إلا والميزان يميل لصالح العدو أكثر فأكثر، ولم يكن بعيدا ذلك اليوم الذي تتطور فيه أسلحة العدو ومنظومة قبته الحديدية لتصير كل أسلحتنا وصواريخنا غير فعالة ولا قيمة لها، ولا نأمن في كل يوم أن ينكشف لنا سرٌّ أو خطة أو يتمتع العدو بمزية تقنية جديدة تكشف له الأنفاق ومخازن الصواريخ وأماكن قادة المقاومة، فيسدد لنا الضربة القاضية أو نعجز أن نفعل شيئا مطلقا أمام خطوة جديدة منه: سياسية أو عسكرية، وخطة الطوفان نفسها كان يمكن أن تفشل تماما لو أضيف تحسين أمني جديد بقصد أو بغير قصد على السياج العازل.
كذلك فإن الانتظار قد يعني موت القضية، فلقد كانت أن القضية تتعرض لضربات موجعة بموجة التطبيع الخليجية والتي تبعتها حملات كبرى لتقزيم القضية والتملص منها وجعلها قضية الفلسطينيين وحدهم، كذلك هذا التهديد المستمر للأقصى واقتحاماته المتكررة، وهذا حال المقاومة في الضفة والداخل يزداد ضعفا.
فماذا لو فكرنا في تصغير الهجوم؟
إن الذي تحقق أصلا كان مفاجئا للمقاومة كما هو مفاجئ للاحتلال، فلم يكن المتوقع نجاحٌ بهذا القدر ولا أسر كل هؤلاء، ولكن لو رجع بنا الزمن فقررنا تصغير الهجوم، فماذا كان سيكون؟ معركة صغيرة جديدة كالمعارك السابقة التي تستنزف غزة وتحتاج من بعدها سنوات لتعويض ما فقدت، وعودة إلى نفس الحال. هذا مع أن رد فعل العدو ليس مضمونا كذلك، فإن هذا العدو الخالي من كل أخلاق، والذي تتقبل كل الدول جرائمه بطيب نفس، والذي يتمتع بدعم إقليمي أيضا.. إن هذا العدو غير مقَيَّدٍ بشيء في ردّ فعله!
لو كان الهجوم أصغر من ذلك فنحن الخاسرون، لأن الأسرى الذين بأيدينا سيكونون أقل بكثير مما حصل فعلا، أي أن تصغير الهجوم لن يؤدي إلا تصغير الأوراق التي معنا، دون أن نضمن صِغَر ردّ الفعل. لو كنا سنندم على شيء فهو أن الهجوم لم يكن أكبر من ذلك، وأننا أسرنا فقط ما بين 250 – 300، فيا ليته كان بأيدينا 2500 – 3000 أسير، ولكن ما من أحدٍ كان يتوقع أن يكون العدو بهذه الهشاشة!!
إن التجربة مع الصهاينة تؤكد أن هذا العدو لا يتورع عن توحشه، لأنه لا قيد عليه من أحد! لا سيما وأن استخبارات المقاومة كانت ترصد خطط العدو لهجوم شامل مفاجئ تضرب فيه القيادات الأولى والمفصلية، وكذلك فإن خطط الاجتياح البري لغزة كانت موجودة ومعدة وتنتظر التحسينات النهائية عند لحظة اتخاذ القرار، ومثلها خطط اجتياح جنوب لبنان والجولان، كل هذا كان موجودا ينتظر اللحظة المناسبة، فلم يكن العدو يتجنب المواجهة مع هذه الجبهات، بل كان يؤجلها إلى لحظة مناسبة.
لقد فاجأه الطوفان وانتزع منه زمام المبادرة، ومعها كثير من الأسرى. لكن التوحش الذي نراه الآن كان سيحدث في كل الأحوال ولو لم يكن ثمة طوفان، لسبب بسيط: أن العدو يرى في هذا التوحش ضرورة عسكرية لصدم المقاومة وإفقادها السيطرة، لذلك فهو ينفذه كجزء من الخطة العسكرية، وبغير ضرورة عملياتية، فإن من أهداف العدو ومقصوداته: تهجير الناس وتوسيع دولته، وهذا لا يكون بغير توحش صادم وهائل! وهذه العقيدة لدى العدو حاضرة قبل الطوفان وبعده، سواء وقع الطوفان أم لم يقع.
(5)
لو أن ثمة خللا لدى المقاومة، فهو الخلل في تقدير ردّ الفعل الصهيوني، وهو الأمر الذي بُنيت عليه خطط الدفاع، وخطة الإدارة الداخلية.. ولكن من ذا يستطيع أن يلوم المقاومة إن كان هجومها قد نجح بأعلى بكثير من المتوقع؟! كما أن في محاولة علاج هذا الخلل بأثر رجعي نسيانٌ لأمور وتفاصيل كثيرة كانت مراعاتها جزءا من خطة السرية التي رافقت الطوفان. إنه ما من أحد، سوى أهل المقاومة أنفسهم، يستطيعون تقدير البدائل الأفضل في حالة كهذه.
وإذن، فقد يسأل سائل: من المسؤول عما وقع؟
والجواب بوضوح: إنه لا يُسأل الذي قام بواجبه لماذا قمت بالواجب؟ بل يُسأل الذي لم يقم بواجبه لماذا لم يفعل؟ لئن كانت غزة قد فعلت أقصى ما بوسعها بل حققت معجزة، فالسؤال ينبغي أن يُقال بعد ذلك لسائر الذين لم يقوموا بواجبهم: في فلسطين المحتلة، وفي المحيط العربي، وفي العالم الإسلامي، وفي الخارج العالمي كذلك! فلو أن هؤلاء جميعا قد قاموا بواجباتهم كما قد قامت به غزة، ما استطاع العدو أن ينفذ هذه المذبحة المروعة!
إن البعض يتعامل مع قضية فلسطين بمبدأ: نتمنى تحرير فلسطين، وليس بمبدأ: نريد تحرير فلسطين. فإن الإرادة تبعث عملا محموما، بل وتبعث في صاحبها روحا ووعيا يفهم بها ومعها أن الثمن اللازم لتحرير فلسطين لن يكون أقل من الثمن الذي دفعته الشعوب المحتلة، وما أعظمه! بل سيكون أكبر من هذا الثمن لخصوصية هذه القضية وقداستها! وما دُفِع حتى هذه اللحظة ليس إلا جزءا من الثمن، ولا ندري هل ما بقي منه لا يزال هو الجزء الأكبر؟!
(6)
هل انتصرنا؟
إن الثورات وحركات التحرر لا تنتصر بالضربة القاضية، بل بالضربات المتراكمة المستمرة الصبورة الدؤوبة، النصر سيكون من نصيب الأصبر الأقدر على النهوض بعد كل ضربة! من نصيب الأعلى حظا من الأمل والأكثر استمساكا بحقه!
لهذا فإن حسبة القوة المحتلة غير حسبة الواقع تحت الاحتلال، يكفي الواقع تحت الاحتلال أنه لم ينكسر ولم ينهزم، أما قوة الاحتلال فإن لم تنتصر فقد انهزمت، وإن لم تحقق أهدافها فقد خسرت! وقد تنتهي سائر الجولات على شعب لم ينتصر، لكن النهاية تكون رحيل الاحتلال الذي هو نفسه قد انتصر في سائر الجولات الصغيرة. ولم نذهب بعيدا؟ فهذه الثورة السورية، سائر جولاتها أنها الخاسرة، لكنها انتصرت في النهاية بعد ضربات كثيرة مؤلمة، وحين يأتي النصر تتحول التضحيات إلى مفاخر!
ربما يقال: نحن في هذه الجولة لم تنتصر، ولكن في الأحوال جميعها نحن من سيقرر إن كنا سننهزم أم لا.. فالهزيمة قرار يملكه كل أحد!
(7)
لقد أخفق العدو في استراتيجيته: تصفير الأخطار.. لقد انتهت هذه الحرب، ولا تزال الجبهات الثلاثة: إيران ولبنان وغزة قائمة وقادرة على التهديد حتى بعد تعرضها لضربات مؤثرة، وحتى غزة التي هي أضعف هذه الجبهات والتي انصبت عليها النيران الكبرى لهذه الحرب، لم تزل المقاومة هي التي تديرها وتحكمها، وقد فشلت سائر المحاولات الإسرائيلية في تهجير أهلها –لا سيما أهل الشمال الذين أنجزوا بصمودهم أسطورة خاصة بهم- وفي حكمهم مباشرة أو عبر أجسام مدنية، ولا يزال بعيدا أن تستطيع قوة ما حكم قطاع غزة دون رضا المقاومة أو بالتفاهم معها.. كذلك لا يزال بعيدا أن تقول إسرائيل بأنها قد أمنت نفسها من التهديد الغزي.
كذلك فشلت إسرائيل في سحب القوى الدولية لتفتح جبهة إيران، وهي الجبهة التي لا تستطيع أن تفتحها بنفسها منفردة، وانتهى الحال ولا يزال التهديد الإيراني قائما.
كذلك جبهة حزب الله في لبنان، لقد فوجئ العدو بعد كل استعداداته بما لم يكن يتوقعه من استعدادات، ومع أنه نفذ ضربات جريئة جدا ليجرّ الحزب إلى حالة الحرب، بقي الحزب متمسكا بحالة جبهة الإسناد، وبقي حتى النهاية متمسكا بضرب المواقع العسكرية فقط دون التصعيد باستهداف المدنيين! ففي الخلاصة نجح العدو في إضعاف الحزب لكن لم يقترب إطلاقا من إزالة خطره عليه.
ثم جاء النجاح المفاجئ للثورة السورية، وفي كل الأحوال فإن مآلها سيكون أنها جبهة جديدة خطرة على المشروع الصهيونية!
انتهت المساحة المخصصة للمقال، ولم يزل ثلث الكتاب الأخير باقيا.. فلعل ما سبق يكون محفزا لقراءة الكتاب نفسه.. والله المستعان.