بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: الأدب الإسلامي (٤)

على مائدة العلم والأدب:

تحدثنا في الحلقة السابقة عن الخصيصة الأولى من أهم خصائص الأدب الإسلامي، وفي هذه الحلقة نتحدث عن الخصيصة الثانية من خصائصه:

الخصيصة الثانية: الإنسانية:

يرى بعض الناس أن الأدب ينسب إلى اللغة لا إلى الدين، وهذه الرؤية قد تكون صحيحة إلى حد ما، ولكن الأصح أن ينسب الأدب إلى المفهوم الذي يصدر عنه، فالأدب الذي يكتبه كاتب ماركسي غير الذي يكتبه كاتب وجودي، فكل منهما له مفهومه الخاص للحياة والكون والواقع وما وراء الواقع، حتى وإن بدا أن هناك قواسم مشتركة بين كل منهما، فالتمايز في الرؤية والتعبير موجود لا محالة، والأمر ذاته ينطبق على من يكتب بمفهوم إسلامي، ومن يكتب بمفهوم غير إسلامي، ومشكلة بعض الناس في العالم الإسلامي أنهم ينظرون إلى الأدب بمفهوم مغاير لمفاهيم الإسلام، بل يضيفون صفة التعصب إلى المنادين به، والأدب الإسلامي لا يمكن أن يكون طائفيًّا، أو انعزاليًّا، أو عنصريًا لأسباب موضوعية وواقعية في آن واحد.

لقد جاء الإسلام ليكون عالميًّا وإنسانيًّا يمقت الطائفية بمعطياتها السلبية، ويرفض العنصرية بأشكالها المتعددة ومدلولاتها البغيضة، وفي الوقت ذاته دعا إلى التفتح، والتمس الحكمة لدى الآخر: أيًّا كان هذا الآخر وحيثما كان، ولو كان في الصين أبعد نقطة بالنسبة للمسلم في بداية عصر الإسلام.

وفي العالم العربي والإسلامي لا يمكن أن يكون الإسلام طائفيًّا، ويستحيل أن يكون المسلمون طائفة أو جالية، فهم الأغلبية الساحقة التي من حقها أن تعبر عن نفسها ومعتقداتها دون أن تجد حرجًا أو غضاضة، ثم إن الأقليات غير المسلمة تجد نفسها داخلة تحت عباءة الثقافة الإسلامية إلى درجة كبيرة، لأنها مظهر الحياة الاجتماعية العامة، وعناصر هذه الثقافة مبثوثة في كيانها ووجدانها بحكم التربية والعلاقات وطبيعة التسامح التي تميز بها الإسلام، وإن كان هذا لا يمنع من احتفاظ الأقليات بخصوصياتها الدينية والفكرية.

لقد حارب الإسلام العنصرية منذ بدء الدعوة، وجمع الإسلام بين الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والفقير والغني في منظومة عقدية فكرية مدهشة، ليس لها نظير مسبوق في التاريخ، وأقام أساس المفاضلة بين البشر على ركيزة التقوى{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات: ١٣ ] والتقوى مفهوم شامل يتسع لإخلاص القلب لله والخوف منه، وطاعته والعدل واجتناب المظالم والبعد عن العدوان ونصرة المظلوم واحترام الإنسان أيًّا كان، انطلاقًا من قوله تعالى { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا } [ الإسراء: ٧٠ ].

وتكريم بني آدم في الآية يشمل كل بني آدم: المسلم وغير المسلم، العربي وغير العربي، الأبيض والملون، القوي والضعيف، القريب والغريب، الغني والفقير، لا تفرقة في الإسلام بين آدمي وآدمي في حفظ الكرامة وصونها، وما أكثر المواقف العملية التي سجلها التاريخ تطبيقًا لهذا السلوك في المحيط الإسلامي.

ولا ريب أن الإسلام وهو يدعو إلى الحرص على آدمية الإنسان، لا يجهل أهمية التفاعل بين بني آدم، واستفادة بعضهم من بعض في شتى المجالات، ويخطئ من يتصور أن الإسلام يدعو إلى العزلة أو التقوقع، يقول الحق تبارك وتعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات ١١٣ ].

في هذه الآية الكريمة بيان لأهمية التعارف بين الناس، سواء شعوبًا، أو قبائل، أو بلغة العصر: دولًا وأوطانًا، فالتعارف يتضمن المعرفة والمصالح المتبادلة، والتفاهم المشترك، والوعي بما لدى الآخر، وتحقيق التواصل الإنساني في إطار التقوى التى هي مناط التفاضل كما سبقت الإشارة.

إن أدبًا يعبر عن القيم الإنسانية التي ترفض الطائفية والعنصرية والعزلة، لهو أدب يعني كل الناس، وهو أدب إنساني، يجد فيه البشر على اختلاف ألوانهم ومشاربهم زادًا من الخير، وذخيرة من الأمل، وطاقة من النور، وبالتالي لا يمكن أن يكون أدبًا طائفيًّا أو عنصريًّا، أو داعيًا إلى العزلة والتقوقع.

هناك آداب طائفية، وأيضا آداب مذهبية تعبر عن بعض الأقليات والفئات، وللأسف فإن مضمونها الأناني الذي يصدر عن تعصب طائفي أو مذهبي يجعل تأثيرها محدودًا، وإن كان يمنح من يتوجه إليهم مزيدًا من الاشتعال الطائفي وربما العنصري، ويدفعهم إلى الشقاق مع الأغلبيات، ولم يعد خافيًا أن الدول الكبرى الاستعمارية تقف من وراء هذه الآداب الطائفية، وتروج لها في أجهزة دعايتها القوية وتمنحها الجوائز المرموقة، ومع ذلك فإنه لا يتبقى منها نصوص ذات قيمة إنسانية عالية، والحال نفسها تنطبق على الآداب العنصرية التي تمجد القوة وسحقَ الضعفاء والهيمنةَ عليهم، واستحلالَ بلادهم وثرواتهم ثم استعبادهم، وهذه الآداب منتشرة وموجودة في دول الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، وتمثل وصمة في جبين الإنسانية، خاصة وأنها قد انتقلت من مرحلة الطبع على الورق إلى التصوير على شاشات السينما والتلفزة وأشرطة الفيديو وشبكات الإنترنت.

إن ميزة الأدب الإسلامي أنه يفتح صدره للإنسانية جمعاء، ولا يتعصب لطائفة أو جماعة أو جنس أو عرق، لأن الإنسانية من أهم خصائصه، وتُقَدِّمُه للعالم مصدر هداية وإصلاح وأخوة و أمل. (١)

(يتبع)

الهوامش:

(١) بتعديل من مقال للدكتور محمد خفاجي، نشر في جريدة (العالم الإسلامي)، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، العدد ٢٢ ذو القعدة ١٤٢١ھ ۔

(الأحد: ٧ من جمادى الأولى١٤٤٦ھ – ١٠ من نوفمبر ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى