هيثم قطب يكتب: المقاومة الفلسطينية.. معجزة عسكرية واستخباراتية

ما تفعله المقاومة منذ أشهر هو معجزة عسكرية واستخباراتية حقيقية بلا ذرة مبالغة.. لدي بضعة أفكار متفرقة وعشوائية سأكتبها كي لا أنساها (ربما شيء أكثر تنظيمًا فيما بعد)
قبيل الطوفان، اعتمد الأمريكيون اعتمادًا تامًا على «الإسرائيليين» في تقديم إحاطات استخباراتية شبه منتظمة عن الأوضاع في الأراضي المحتلة «الضفة الغربية على الأخص»، وفي تقييم الوضع في غزة، وعن قدرات حركات المقاومة المختلفة، وعلى رأسها «حماس»..
في الضفة تحديدًا امتلك «الإسرائيليون» منظومة تقنية شديدة التطور للمراقبة والرصد تعتمد على قواعد بيانات هائلة تجعل منظومات الصين مثلًا بمثابة منظومات ملائكية مقارنة بما يحدث، هذه المنظومة جردت آلاف الفلسطينيين من خصوصيتهم تمامًا، وأعني هنا المعني الحرفي لكلمة خصوصية: كل ما يمكنك أن تتصوره عن خصوصية أي إنسان ليس له أي وجود في بعض مناطق الضفة (ربما أكتب شيئًا تفصيليًا وتقنيًا عنها في غضون أيام)..
أما بالنسبة لغزة أعطى نتنياهو انطباعًا واضحًا لإدارة بايدن أن الأمور تحت السيطرة، وأن حماس مهتمة بالعمل واستمرار منح التصاريح للعمالة الغزاوية وبأمور الحكم، وليس لها رغبة في إثارة أي صراع..
لذا كان الأمريكيون مطمئنين بشكل ما للوضع، ولذا بعد الطوفان كان هناك ما يشبه العتاب التنظيمي بين مجتمع الاستخبارات الأمريكي ونظيره «الإسرائيلي» بسبب الضبابية وعدم الوفاء بالتزامات بروتوكلات التعاون المعلوماتية الكثيرة بينهما..
في تلك الأثناء، ولأن الأمريكيين فقدوا جزءً مهمًا من ثقتهم في قدرات «الإسرائيليين» المعلوماتية، أرسل جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي تعليمات واضحة برفع أولوية «حماس» الاستخباراتية..
وبالفعل قرر مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، المشرف على أجهزة الاستخبارات الأمريكية كلها، رفع حركة «حماس» للمرتبة الثانية على سلم أولويات الاستخبارات الأمريكية.. وقد كانت «حماس» قبل الطوفان أولوية رابعة، أي أن الموارد المخصصة لها قليلة والاهتمام بها ضئيل.. شيء أشبه بـ«حماس تخص الإسرائيليين وليس لنا علاقة بها»
أما الأولوية الثانية الحالية فمعناها أن «حماس» الآن تحتل أعلى سلم الأولويات الأمريكية الاستخباراتية بعد الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا مباشرة.. هؤلاء تحديدًا..
كان الهدف الأول من ذلك هو مساعدة «الإسرائيليين» في العثور على الأسرى، وبعد ذلك انضم هدف آخر يدعى قيادات المقاومة..
بالنسبة للـ«إسرائيليين»، فإن كأسهم المقدسة التي يمكنها أن تعطيهم صورة نصر رائعة أمام جمهورهم المتعطش في أغلبه للدماء هو رأس يحيى السنوار، حيًا أو ميتًا، ويليه “محمد الضيف” قائد الجناح العسكري..
هذه الكأس هي الوحيدة تقريبًا، بجانب حرب كاملة في الشمال مع حزب الله، القادرة على إطالة تاريخ الصلاحية المنتهي لنتنياهو وحكومته، وهي التي ستعطي الأمريكيين فرصة أكبر لممارسة ضغط أشد على “الإسرائيليين” قد يصل للإجبار لوقف إطلاق النار..
لذلك أرسل الأمريكيون بعض أفضل طائرات التجسس المسيرة لديهم لمسح سماء القطاع بجانب الأسطول «الإسرائيلي» من الدرونز، وانضم البريطانيون أيضًا لتلك القافلة، وبالفعل أرسلوا طائرة shadow r1، وهي واحدة من أفضل طائرات الرصد ومنصات جمع المعلومات الجوية في العالم..
الفكرة الواضحة من كل تلك الشبكة الأمريكية الإسرائيلية البريطانية هي رصد الأصوات والاتصالات الهاتفية «ما تبقى منها» والصور وتحركات الغزاويين في مناطق معينة من القطاع مع دراسة أنماط تلك الحركة «تشبه تحركات مقاتلين / تحركات مدنيين» ودمج كل ذلك وغيره للوصول لأماكن الأسرى بدقة وسرعة..
علينا أن نتذكر الآتي: كل ذلك الرصد والتتبع والانتباه يحدث في قطاع تستطيع قطعه من أوله لآخره في نصف ساعة بسيارة..
النتيجة؟ صفر كبير..
لم تكتف المقاومة بذلك فحسب، وإنما وجهت رسالتين غاية في الوضوح والمباشرة: مازلنا قادرين على إطلاق الصواريخ بعد كل ذلك الدمار والرصد بالغ الدقة، ومازلنا قادرين على حماية الأوراق الرابحة «القادة – الأسرى» بشكل واضح مع كل ذلك الزخم..
طبعًا هذا كله بجانب العمليات اليومية التي ستدرس قطعًا في المعاهد العسكرية المهمة حول كيفية التعامل مع الجيوش النظامية في المدن «نسخة 2023-2024»
بالنسبة للمقاومة، كان أحد أهداف الطوفان الأساسية هو تحريك الضفة الغربية، وفي هذا المقام لم تكن طوفان الأقصى عملية عسكرية وإنما مغامرة حقيقية..
في العقدين الماضيين تم هندسة الضفة اجتماعيًا وأمنيًا وتحويلها عن طريق السلطة والمستوطنات والنظام الأمني للاحتلال لمناطق أشبه بمعسكرات الجيش، حيث يمكنك إخضاع وإخماد أي حراك كبير في بدايته بدون أن يمتد الحريق للضفة بأكملها (هناك تفاصيل مدهشة عن تلك الهندسة لا يتسع لها المقام هنا للأسف)..
ولأن حماس تدرك ذلك، فقد درست ما حدث في الشيخ جراح جيدًا، ورأت أن هناك ثغرات واضحة في الجدار الحديدي «الإسرائيلي» العازل للضفة، ولذا تعمدت منذ البداية تنفيذ سلسلة متصلة من الأفعال وردود الأفعال التي تسمح بتحريك الضفة قدر الاستطاعة وحتى الوصول لنقطة حرجة تستطيع معها التعامل مع مشروع فلسطيني مفهوم يمكن البناء عليه، أو على الأقل يكن له هيكل ما..
بالطبع يدرك «الإسرائيليون» ذلك جيدًا، لذا يقمعون الضفة ونجد كل تلك الاقتحامات الليلية والاعتقالات والإعدامات في كل مكان تقريبًا، الخليل وأريحا وجنين وبيت لحم وغيرهم، ولذلك وصل عدد المعتقلين في الثلاثة أشهر الماضيات فقط لقرابة 6000 معتقل ومعتقلة..
هذه الشراسة «الإسرائيلية» يقابلها تصاعد في وتيرة عمليات المقاومة الفردية وغيرها بالضفة، وإيمان متصاعد أيضًا بأهمية المقاومة، مرة أخرى نحن نتكلم عن الضفة الغربية، مساحة يقبض عليها «الإسرائيليون» بيد من حديد وبكل الطرق منذ قرابة عقدين..
يدرك الأمريكيون أيضًا كل ذلك بتمامه، ولذا هم مستاؤون من نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، ولذا يتسع الشقاق بين بايدن ونتنياهو.. الأمريكيون هم أستاذة اختراق وتفتيت معظم التنظيمات الراديكالية في العصر الحديث، ويعلمون أن وجود السلطة واستقرارها مهم لضبط الأمور وإلا سيفتح الأمر على بابه لحماس، أو لشيء أكثر قوة ومنعة مستقبلًا “تنظيم موحد على امتداد الأراضي المحتلة”..
الطوفان هو مساحة غير مسبوقة من العمل العسكري والمعلوماتي، وفي رأيي الشخصي لن ندرك أبعاده مطلقًا الآن، سندرك ماهيته فيما بعد، ربما، بعد توقف بحور الدماء، وإن أجدنا استغلال ما حدث وبنينا عليه، جميعًا.