السبت يوليو 27, 2024
أقلام حرة

المظاهرات الطلابية ومعركة الوعي ضد التخدير السياسي

مشاركة:

محسن المساوي

رغم مرور أكثر من نصف سنة على انطلاق الحرب في غزة وقتل الآلاف من الفلسطينيين، فإن آلة القتل والتنكيل ضد أهالي غزة تواصل عملياتها من دون تردد أو تراجع في وتيرة القتل والإصابات، وفي غياب تام لأي تأثير للمؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية على موقف إسرائيل في ايقاف الحرب، بل العكس الدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة الامريكية شكلت الدرع الحامي لإسرائيل في مجلس الأمن بتسخير حق الفيتو في خدمتها.

كما أن ازدواجية معايير هذه الدول الغربية في تعاملها مع ما يقع في فلسطين، من صرف النظر على وجهة نظر الفلسطينيين، والاعتماد على دعم إسرائيل ماديا وإعلاميا بالتركيز على الترويج البروباغاندا الإسرائيلية، وحصر النزاع في «حماس-إسرائيل»،  وتجاهل تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الطويل، وتفسيرهم الأحادي للحقائق، متناسيين بذلك بأن غزة ليست هي «حماس»، والقضية الفلسطينية تتعلق بحق شعب طُرد من أرضه بشعار أن الأرض حق تاريخي لليهود، وأن الفلسطينيين في النهاية عرب بوسعهم أن يتخلوا عن أرضهم وان يعيشوا في البلدان المجاورة مع أشقائهم، قد شكلت التوصيف الذي يصور به الغرب حماية إسرائيل واجباً أخلاقيا.

 غير أن الشعوب الغربية أبانت عن رغبة معاكسة لما تحاول الأنظمة في هذه البلدان الترويج له، فلأول مرة تكون فلسطين على رأس أولويات الشعوب الغربية قبل العربية التي خرجت مدافعة عنها ضد العدوان الذى تشنه قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر الماضي إلى غاية حدود اللحظة، فتصبح الكوفية الفلسطينية الشهيرة والعَلم الفلسطيني بألوانه الأحمر والأبيض والأسود والأخضر، مظهراً رئيسياً في المسيرات التي تم تنظيمها في عواصم الدول الغربية والأوروبية.

ليصل صيت هذه المظاهرات إلى المؤسسات الجامعية في عدة بلدان غربية خاصة في كل من أمريكا، فرنسا، رفضا منها للمجازر التي تُرتكب اليوم ضد الفلسطينيين، وتشهد هذه الجامعات احتجاجات واسعة من طرف الطلبة والأكاديميين الذين دعوا إلى قطع علاقات تعاون بين جامعتهم والمؤسسات الاسرائيلية، ومن جهة أخرى مناداة هؤلاء المحتجين حكومة بلدانهم للضغط على إسرائيل من اجل إيقاف الحرب وعدم المشاركة في تمويل العمليات العسكرية التي تؤدي بالآلاف من الضحايا.

وشكلت جامعة كولومبيا انطلاقة للمظاهرات التي انتقلت لباقي الجامعات الأمريكية، نفس الشيء في فرنسا حيت عبر طلبة معهد العلوم السياسية باريس، عن غضبهم اتجاه ما تقوم به اسرائيل من مجازر.

 وكرد فعل من السلطة، استعملت القوة في التعامل مع المظاهرات واعتقال عدد كبير من طلبة المتظاهرين، مما يطرح أكثر من تساؤل حول حرية التعبير والتظاهر في بلدان تُعرف نفسها بأنها ديمقراطية، علما أن أية محاولة لإرغام أفراد ذوي آراء مختلفة وشخصيات مُستقلة على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة وترضاه يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تكون السلطة السياسية أشد عنفاً إذ أنكرت على الفرد حقه في التفكير والتعبير الحر، لاسيما أن كل هذه المظاهرات سلمية وجاءت بشعارات سلمية وإنسانية.

والمتظاهرين من طلبة وأكاديميين الذين يُعتَقلون، لا لشيء سوى التعبير عن أرائهم، ويزج بهم في السجن تبعاً لرغبة السلطة العليا التي تسلبهم حقهم في التعبير الحر، يدفع البعض للقول ان مصلحة الدولة تستلزم سلب هؤلاء المتظاهرون حريتهم وتجريدهم من حق نقد أعمال الدولة، ولكن التضحية بحرية رأي الفرد معناه التضحية بما يمنح الإنسان إنسانيته ويجعل للحياة قيمة، وطالما تٌعرف هذه الدول نفسها بأنها مهد الديمقراطية، فعليها أن تدرك بأن الدولة الديمقراطية الحقيقية هي التي تعمل على منح الفرد الفرصة في توجيه سياسة الدولة، عن طريق إعطاء صوته وتمثيله وتمكينه بذلك من المشاركة في بحث شؤون الدولة، وهي بذلك توسع المجال لمشاركة الجميع في خلق بيئة نقاش فعال ومنتج، لكن تعامل هذه الدول مع المظاهرات المساندة لفلسطين يبين أنها لا تكلف نفسها هذا العناء في منح الطلبة هذا الحق فيما يخالف مصلحتها مع اسرائيل، فتعمد الى سحق كافة الحريات خاصة حرية الرأي، وكل الآراء المتعاطفة مع الأبرياء في فلسطين توصف بأنها معادية للسامية وتهدد أمن الدولة الداخلي والخارجي.

وهنا لابد لنا أن نستذكر بأن كثيرون من الغربيين من بينهم رواد منصات التواصل الاجتماعي تحدثوا عن ازدواجية المعايير الغربية، معتبرين أنه “على مر عقود والغرب وأمريكا يتكلمون عن القيم الأساسية لحقوق الإنسان المتمثلة في الكرامة الإنسانية والمساواة، وها نحن نعرف الآن أن الحياة الكريمة لا تعني إلا فئات معينة من العالم فقط، وفق وجهة نظرهم”.

إن ما تشهده الجامعات الغربية من اعتقالات وتعنيف للطلبة المتعاطفين مع فلسطين، وتجريم المقاطعة التجارية للمنتجات الإسرائيلية، والسعي الى تقييد حرية التعبير في وسائط التواصل الاجتماعي، يجعل من وجود بنود عن حرية الرأي والتعبير في دساتيرها تبقى أسيرة إطارها الشكلي أو في ما يخدم مصالحها، حيث الانتهاكات والتعسفات الأخيرة لحرية الرأي في هذه الدول والتي يتعرض فيها الطالب أو الأكاديمي للسجن والتعذيب، ثم إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه الى السجون هؤلاء الشرفاء وكأنهم مجرمون، جريمتهم الدفاع عن القيم الانسانية والاخلاقية والوفاء لمبادئهم والتضحية في سبيل الحرية، وهكذا كلما قلت حرية الرأي عند الناس، اشتد عنف السلطة وأصبح القمع الدعامة الأساسية للحكم.

وأخيراً، فالدولة الديمقراطية هي التي تمنح للمواطن مساحة من الحرية في الاختيار والتمييز بين الخطأ والصواب، مما يجعله كفيل الاجتهاد للوصول الى الحقيقة، وتزوده بتفكير مستقل ولا يمكن الادعاء أن هكذا وضع مضاد لمصلحة الدولة، لإن التفكير الديمقراطي يؤمن بأن أراء الإنسان الأخلاقية والسياسية هما من اختصاصه وشؤونه فمن حقه أن يكون له الحرية فيهما دون تدخل الدولة، والتي تبقى مهمتها الأساسية الاستجابة لمتطلبات الجماهير وليس لقمعهم.

الكاتب:

باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب