بحوث ودراسات

د. عبد الرحمن بشير يكتب: أين المفرّ؟ (١-٢)

لقد استمعت إلى حديث يجرى بين زوجتي، وسيدة أخرى تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان حديثهما يدور حول (الحرية الجنسية) في الغرب، ووصل الأمر إلى تدريس الحرية الجنسية كمادة في المدارس العمومية، وفي مراحل متقدمة جدا من المرحلة الابتدائية، فضلا عن المراحل المتوسطة والثانوية، وناقش الزوجان، وطرحا سؤالا محوريا، ما العمل؟ هل الحل هو العودة إلى الوطن الأصلي؟ أم الحل هو إيجاد مناخ تربوي آخر قد يكون ملاذا آمنا للأطفال؟

استمعت إلى حوارهما عن كثب، وكان بالتلفون، ولكنى لاحظت أن هذا الحديث هو الذي يجرى في كل مكان، في المدارس، في الجوامع، في المنتديات، في كل مكان يجتمع فيه الناس حيث صار الحديث حول هذه القضية الساخنة، وحين يصلون إلى السؤال المحوري، ما العمل؟ تكون الأجوبة محدودة جدا، وقد تكون بين خيارين فقط، الخروج من الغرب، والذهاب إلى وطن آخر، هنا يأتي الخيار الثاني، ما هو الوطن الذي يحب أن نهاجر إليه؟

هنا ينتهي الحوار إلى منطقة غير آمنة، ويصبح الحوار عدميا، ويطرح بعض الناس الخروج من الغرب، ولكن السؤال، إلى أين؟ لدينا خيارات ثلاثة، كل خيار يمثل حلّا مرحليا ومؤقتا، فالخيار الأول هو الذهاب إلى (مصر) بعد أن تناقصت الخيارات الأخرى (سوريا، اليمن)، وفي مصر ثلاثة أشياء محفزة، الأول: وجود حياة غير مرتفعة، ويكون ذلك جيدا مع انخفاض العملة المصرية أمام الدولار الأمريكي، أما الأمر الثاني فيكمن في وجود (المعلم) القرآني بوفرة في مصر، وهناك أمر ثالث، ومهم، وهو وجود الشعب المصري المضياف، فلا يشعر الإنسان المغترب في مصر الغربة بحال من الأحوال.

هناك خيار آخر، وهو أن يهاجر الناس إلى تركيا، وفي تركيا محفز، وخاصة للأطفال والأسر، لأن تركيا تشبه الغرب من حيث التقدم المادي، فلا يشعر الإنسان في تركيا جفوة حضارية كبيرة، ويمكن أن تستمر الحياة في نسقها الغربي من حيث الرخاء المادي،ومع نوع من الحياة الإسلامية، وهناك أمر آخر، وهو أن الحياة في تركيا كذلك أرخص بكثير من الغرب، ولكن هناك عقبة اللغة في تركيا، وكذلك الشعور بالغربة بخلاف الحالة المصرية.

لدى الإنسان المسلم خيار ثالث وهو العودة إلى الوطن، ولكن هناك سؤال محوري في هذا المجال، لا أمن في الوطن، ولا حرية في الوطن، بل لا عمل أيضا في الوطن، هنا، يصبح السؤال نوعيا، وليس غائيا، كيف نعود إلى الوطن الذي خرجنا منه مكرهين ومضطرين؟ والسبب الذى به خرجنا منه، ما زال موجودا، هنا يعيش الإنسان في قلق منهجي، لأن السؤال في السياق جاء بشكل غير علمي، وكذلك الأجوبة تصبح بلا جدوى في هذه المرحلة الدقيقة.

إن الغرب بدأ يزحف نحو التشيؤ، بل نحو المادية الصرفة ( l,Homme machine، ومن هنا فالمسألة ليست فقط في (الحرية الجنسية)، بل المسألة تكمن في تحديد (الهوية الإنسانية)، وهذه المسألة ليست وليدة اليوم، بل هي وليدة التساؤلات التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، من نحن؟ وما هي طبيعة الإنسان؟ وهل الإنسان جزء من الكل؟ وهل لدى الإنسان طبيعة خاصة، ولو استطعنا قراءة كتاب (دفاع عن الإنسان) للدكتور عبد الوهاب المسيري ننجح في فهم ما يجرى اليوم في الغرب.

يحاول الغرب أن يجعل هذه الثقافة عالمية، ويربط بها حقوق الإنسان، بل وبربط بها مساعداته التي يقدم بها إلى العالم الثالث، ولهذا نجد اليوم ثقافة (الجندر) تنتشر في العالم اليوم من خلال مؤسسات مدنية، ومن خلال دورات فكرية وسياسية وحقوقية تقوم بها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، ومن هنا، نحن اليوم لسنا أمام فكر فقط، بل نحن أمام إعصار فكري وسياسي وثقافي.

سؤال وتحد:

في الغرب سؤال، من نحن؟ وهو يبحث عن جواب الهوية الإنسانية، والهوية الإنسانية لم تتحدد بعد بشكل صارم عند الغرب، هناك هوية حيوانية، فالإنسان كائن حيواني، وهو لا يفترق عن الحيوانات الأخرى بيولوجيًا، هو جزء من الكل، والحيوانات كائنات طبيعية، وليست مخلوقات أعلى من الطبيعة، إذا، فالإنسان كائن مادي، وجزء من الطبيعة، يحاول الغرب ترسيخ فكرة (النزعة الجنينية)، والتي تعنى رفض كل الحدود، وإزالة المسافات بين الثنائيات (الخالق والمخلوق، الطبيعة والإنسان)، وحينها يصبح الإنسان بعدها كما يقرر المسيري رحمه الله كائنا لا حدود له، فيصبح كائنا سائلا، يمكن أن يكون حيوانا، ويمكن إن يكون شيئا، ويمكن أن لا يكون حيوانا، أو شيئا، بل هناك سؤال آخر، من أنا؟ هل أنا ذكر؟ أم أنا أنثى؟ أم أنا كائن لم يُحدّد بهد هويته؟ ومن هذا السؤال، يأتي منه أسئلة أخرى، من يحدد هوية الإنسان؟ الدولة، أم المجتمع؟ الكنيسة أم البرلمان؟ الشخص أم الوالدين؟ ما حدود تدخل الآخر في خيارات الإنسان؟

إن المشكلة في الحضارة الغربية تكمن في تأليه (العقل)، ومنحه حق تقرير المصير للهوية الإنسانية، فقد أصبح العقل إلها في الغرب، والإله قد مات كما قال نيتشه، سبحانه عما يقولون، فكانت المعرفة الدينية سابقا معرفة مطلقة، واليوم مع المنهج الغربي تحولت المنتوجات العقلية إلى معرفة مطلقة،ومن هنا يتخذ العقل الإنسانية صفة ليست فيه، فيصير مطلقا برغم نسبيته، ومن هنا يصبح العقل كهنوتا غير قابل للنقاش.

لقد دخل الغرب مرحلة التحديث، وتعنى هذه المرحلة تنميط الواقع، ونشر ثقافة (صياغة المجتمع) من جديد تحت (السوق) الكبير، فيصبح الإنسان شيئا، وبالتالي فهو من السوق الرأسمالي، وليس له غائية أخرى، ومن هنا بدأ الإنسان يضمر أخلاقيا، ويستعد قبوله بكل ما هو غير إنساني تخت ذرائعيات مختلفة، ومن هنا وجدنا أن الغرب بدأ مسيرته من الرؤية (العدمية) والتي انطلقت من فلسفة نيتشه، ومن فلسفة داروين الاجتماعية، ومن أوجست كونت، صاحب الفلسفة الوضعية.

نحن اليوم لا نعيش أزمة محلية، ولا أزمة ثقافية مرتبطة بمكان، أو زمان، ولكن نحن اليوم نواجه مشكلة عالمية تنطلق من معرفة كونية ذاتية، ولكنها حاولت، وما زالت تحاول تسويقه، وجعل تلك الثقافة عالمية، ولكن هناك ثقافة عالمية أخرى تواجه تلك الثقافة الغربية، وهي الثقافة التي تنطلق من الوحي، ومن القراءتين، القراءة الشاملة للوحي، والقراءة التكاملية للواقع (الكون)، وهذه المرجعية الإسلامية تنطلق من إله واحد منزه عن الطبيعة والتاريخ، أي إله يخلق، ويريد، ويشرع، ولكنه ليس حالا في الكون، وليس جزءا من الطبيعة، بل هو متعال عن الطبيعة، ويصبح الإنسان في هذه الثقافة سيدا، وليس مسودا، ومخلوقا له طبيعة خاصة، وليس بالضرورة أنه جزء من الطبيعة، فهو من الطبيعة، ومن خارج الطبيعة، هو من الأرض، ومن نفخة علوية غير الكون، ولهذا فهو ليس نزعة جنينية فقط، بل عنده نزعة (ربانية)، ومن هنا نحن نحتاج في فهم ما يجرى إلى أمرين:

أولا: فهم الخطاب الغربي، وإدراك مراميه، وأبعاده، وفلسفاته، وأهدافه، كما نحتاج إلى القراءة الشاملة للفكر الغربي حتى نفهم كيف يفكر؟ وماذا يريد؟

لدينا في الغرب علماء لم يقرؤوا الفكر الغربي كما هو، ومع هذا يحاولون منح الجالية المسلمة الأجوبة والحلول في هذه المرحلة الخطيرة.

ثانيا: نحن اليوم نجد في الخطاب الإسلامي في الغربي تشوهات خطيرة كما يقول الدكتور عبد الحميد سليمان، ومن هذه التشوهات التى نلاحظها في الخطاب الدعوي في الغرب، التشوه المنهجي، والتشوه في طرح المفاهيم الكبرى، بل غياب المفاهيم الكبرى في الإسلام، والحديث عن حلول فقهية في عالم لا يعترف بالفقه، كما نجد كذلك التشوه في طرح الخطاب الوعظي حيث نضخم الوعيد، كما نلاحظ خطابا لا يراعي السنن الكونية والاجتماعية، بل ونلاحظ كذلك نشر ثقافة تفسير الرؤى والمنامات فقط بدون تقديم للمعلومات الدينية في مناخ فكري وثقافي سليم، ومن هنا انتشرت ثقافة الشعوذة والخرافات من جديد.

ماذا يقول الإسلام عن الهوية الإنسانية، وعن حقوق الإنسان، وعن ذاتية الإنسان، ومن يحدد الهوية في الفكر الإسلامي؟ وما العمل في إيجاد حل آمن وممكن؟ كل ذلك سوف نتحدث عن مقال آخر بإذن الله.

د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى